إدارة الدراسات الإسلامية
EN ع

شرح العقيدة الواسطية

وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية

إدارة الدراسات الإسلامية

معهد الدراسات الإسلامية

تأليف

الدكتور صالح بن الفوزان

مدير المعهد العالي للقضاء

الطبعة الخامسة

1427هـ - 2006م.

الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد : فهذا شرح مختصر على العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو شرح يتمشى مع مدارك طلبة المرحلة الثانوية في المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ لأن هذه العقيدة قد قررت دراستها في السنة الأولى من تلك المرحلة.وقد قمت بإعداد هذا الشرح من
المصادر التالية:
1- الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية للشيخ زيد بن عبدالعزيز ابن فياض.
2- التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية للشيخ عبدالعزيز ابن ناصر الرشيد.
3- التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي.
4-وفيما يتعلق بتفسير الآيات نقلت من كتب التفسير كفتح القدير للإمام محمد بن على الشوكاني . وتفسير القرآن العظيم لشيخ: إسماعيل بن كثير وأسأل الله أن ينفع به ويجعله مؤديا للمطلوب من توضيح هذه العقيدة العظيمة. وأن يغفر لي ما وقع منى من خطأ . ويثيبني على ما فيه من صواب إنه سميع مجيب. وصلى الله عليه نبينا محمد وآله وصحبه . والحمد لله رب العالمين.
المؤلف
قال المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح:
   ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز حيث جاءت البسملة في ابتداء كل سورة ما عدا سورة براءة . واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يبدأ بها في مكاتباته.
   وقوله : ( بسم الله ) الباء للاستعانة والاسم في اللغة: ما دل على مسمى وفي الاصطلاح: ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بزمان. والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينبغي أن يقدر متأخرا ليفيد الحصر والله علم على الذات المقدسة ومعناه:ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين . مشتق من أله يُأله ألوهة بمعنى عُبد يُعبد عبادة. فالله إله بمعنى مألوه أي معبود ـ والرحمن الرحيم ـ اسمان كريمان من أسمائه الحسنى دالان على اتصافه تعالى بالرحمة على ما يليق بجلاله ـ فالرحمن ذو الرحمة العامة لجميع المخلوقات. والرحيم ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين كما قال تعالى : ( وكان بالمؤمنين رحيما).
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرار به وتوحيدا. وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما مزيدا.

 
الشرح:
   افتتح هذه الرسالة الجليلة بهذه الخطبة المشتملة على حمد الله والشهادتين والصلاة والسلام على رسوله تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وخطبه ، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ) رواه أبو داود وغيره ويروى : ( ببسم الله الرحمن الرحيم ) ومعنى أقطع أي معدوم البركة ويجمع بين الروايتين للحديث بأن الابتداء ببسم الله حقيقي وبالحمد لله نسبي إضافي.

قوله : ( الحمد لله ) الألف واللام للاستغراق ـ أي جميع المحامد لله ملكا واستحقاقا والحمد لغة: الثناء بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة وعرفا: فعل يبني عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما وهو ضد الذم.
( لله ) تقدم الكلام على لفظ الجلالة.
( الذي أرسل رسوله ) الله سبحانه يحمد على نعمه التي لا تحصى ومن أجلّ هذه النعم أن
( أرسل ) أي بعث ( رسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم . والرسول لغة: من بعث برسالة وشرعا: هو إنسان ذكر أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه. ( بالهدى ) أي العلم النافع وهو كل ما جاء به النبي صلى الله وسلم من الاخبارات الصادقة والأوامر والنواهي وسائر الشرائع النافعة والهدى نوعان:
النوع الأول : هدى بمعنى الدلالة والبيان ومنه قوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) الآية (17) فصلت . وهذا يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
والنوع الثاني: هدى بمعنى التوفيق والإلهام وهذا هو المنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يقدر عليه إلا الله تعالى كما في قوله تعالى : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) الآية (56) القصص ( ودين الحق ) هو العمل الصالح ـ والدين يطلق ويراد به الجزاء ـ كقوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ويطلق ويراد به الخضوع والانقياد ـ وإضافة الدين إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته ـ أي الدين الحق ـ والحق مصدر : حق يحق بمعنى ثبت ووجب ـ وضده الباطل ـ ( ليظهره على الدين كله ) أي ليعليه على جميع الأديان بالحجة والبيان والجهاد حتى يظهر على مخالفيه من أهل الأرض من عرب وعجم ملْيِّين ومشركين .وقد وقع ذلك فإن المسلمين جاهدوا في الله حق جهاده حتى اتسعت رقعة البلاد الإسلامية وانتشر هذا الدين في المشارق والمغارب . ( وكفى بالله شهيدا ) أي شاهدا أنه رسوله ومُطلّع على جميع أفعاله وناصره على أعدائه وفي ذلك دلالة قاطعة على صدق هذا الرسول ـ إذ لو كان مفتريا لعاجله الله بالعقوبة كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) ( الآيتان 44-45 ) الواقعة ( وأشهد أن لا اله إلا الله ) أي أقر وأعترف أن لا معبود بحق إلا الله ( وحده لا شريك له ) في هاتين الكلمتين تأكيد لما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله من النفي والإثبات ـ نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها لله فقوله ( وحده ) تأكيد للإثبات وقوله ( لا شريك له ) تأكيد للنفي .
وقوله : ( إقرارا به وتوحيدا ) مصدران مؤكدان لمعنى الجملة السابقة : ( وأشهد أن لا إله إلا الله ) الخ أي إقرارا باللسان وتوحيداً أي إخلاصا في كل عبادة قولية أو فعلية أو اعتقاديه.
وقوله : ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) أي أقر بلساني واعتقد بقلبي أن الله أرسل عبده محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة لأن الشهادة لهذا الرسول بالرسالة مقرونة بالشهادة لله بالتوحيد لا تكفي إحداهما عن الأخرى. وفي قوله ( عبده ورسوله ) رد على أهل الإفراط والتفريط في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ـ فأهل الإفراط غلوا في حقه ورفعوه فوق منزلة العبودية . وأهل التفريط قد نبذوا ما جاء به وراء ظهورهم كأنه غير رسول فشهادة أنه عبدالله تنفي الغلو فيه ورفعه فوق منزلته. وشهادة أنه رسول الله تقتضي الإيمان به وطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر . واجتناب ما نهى عنه . وإتباعه فيما شرع . وقوله : (صلى الله عليه ) الصلاة لغة: الدعاء ـ وأصح ما قيل في معنى الصلاة من الله على الرسول : ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال : صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى . ( وعلى آله ) آل الشخص من ينتمون إليه بصلة وثيقة من قرابة ونحوها . وأحسن ما قيل في المراد بآل الرسول صلى الله عليه وسلم هنا أنهم أتباعه على دينه. ( وأصحابه ) جمع صاحب . من عطف الخاص على العام . والصحابي هو من لقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك . ( وسلم مزيدا ) السلام بمعنى التحية أو السلامة من النقائص والرذائل وقوله : ( مزيدا ) اسم مفعول من الزيادة وهى النمو . وجمع بين الصلاة والسلام امتثالا لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية (56) من سورة الأحزاب.
أما بعد : فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة.

 
الشرح :
( أما بعد ) هذه الكلمة يؤتي بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر ومعناها : مهما يكن من شيء. ويستحب بها في الخطب والمكاتبات اقتداء بالنبي صلى لله عليه وسلم حيث كان يفعل ذلك . ( فهذا ) إشارة إلى ما تضمنته هذه الرسالة واحتوت عليه من العقائد الإيمانية التي أجملها بقوله : ( وهو الإيمان بالله ـ الخ ) ( اعتقاد ) مصدر: اعتقد كذا إذا اتخذه عقيدة والعقيدة هي ما يعقد عليه المرء قلبه ـ تقول اعتقدت كذا ـ أي عقدت عليه القلب والضمير ـ وأصله مأخوذ من عقد الحبل إذا ربطه . ثم استعمل في عقيدة القلب . وتصميمه. الجازم.
( الفرقة ) أي الطائفة والجماعة ( الناجية ) أي التي سلمت من الهلاك والشرور في الدنيا والآخرة وحصلت على السعادة . وهذا الوصف مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) رواه البخاري ومسلم.
( المنصورة ) أي المؤيدة على من خالفها ( إلى قيام الساعة ) أي مجيء ساعة موتهم بمجيء الريح التي تقبض روح كل مؤمن فهذه هي الساعة في حق المؤمنين . وأما الساعة التي يكون بها انتهاء الدنيا فهي لا تقوم إلا على شرار الناس لما في صحيح مسلم: ( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ) وروى الإمام الحاكم من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما وفيه : ( ويبعث الله ريحا ريحها ريح المسك ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان ألا قبضته ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة ).
أهل السنة والجماعة.

 
 
الشرح :
( أهل السنة ) أهل بالكسر على أنه بدل من الفرقة ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم)والسنة :هي الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته. وسموا أهل السنة لانتسابهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من المقالات والمذاهب بخلاف أهل البدع فإنهم ينسبون إلى بدعهم وضلالاتهم كالقدرية والمرجئة وتارة ينسبون إلى إمامهم كالجهمية . وتارة ينسبون إلى أفعالهم القبيحة كالرافضة والخوارج . ( والجماعة ) لغة الفرقة المجتمعة من الناس . والمراد بهم هنا الذين اجتمعوا على الحق الثابت بالكتاب والسنة وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ولو كانوا قلة ـ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : الجماعة ما وافق الحق وان كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ.
وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره.

 
 
الشرح:
(وهو) أي اعتقاد الفرقة الناجية ( الإيمان) معناه لغة: التصديق ـ قال الله تعالى : في الآية (17) من سورة يوسف ( وما أنت بمؤمن لنا ) أي مصدق ـ وتعريفه شرعا: أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.
وقوله: ( بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره ) هذه هي أركان الأيمان الستة التي لا يصح إيمان أحد ألا إذا أمن بها جميعا على الوجه الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة وهذه الأركان هي:
1- الإيمان بالله ـ وهو الاعتقاد الجازم بأنه رب كل شيء ومليكه وأنه متصف بصفات الكمال منزه عن كل عيب ونقص وأنه المستحق للعبادة وحدة لا شريك له . والقيام بذلك علما وعملا.
2- الإيمان بالملائكة ـ أي التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله في كتابه كما في الآية (27) من سورة الأنبياء: (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ{26} لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأوصافهم وأنهم موكلون بأعمال يؤدونها كما أمرهم الله فيجب الإيمان بذلك كله.
3- الإيمان بالكتب أي التصديق بالكتب التي أنزلها الله على رسله وأنها كلامه وأنها حق ونور وهدى فيجب الإيمان بما سمى الله منها كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن والإيمان بما لم يسم الله منها.
4- الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله إلى خلقه أي التصديق بهم جميعا وأنهم صادقون فيما أخبروا به وأنهم بلغوا رسالات ربهم ـ لا نفرق بين أحد منهم بل نؤمن بهم جميعا من سمى الله منهم في كتابه ومن لم يسم منهم كما قال تعالى : في الآية (164) من سورة النساء :( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) وأفضلهم أولوا العزم وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ثم بقية الرسل ثم الأنبياء وأفضل الجميع خاتم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم بقية الرسل ثم الأنبياء وأفضل الجميع خاتم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ,وأصح ما قيل في الفرق بين النبي والرسول : أن النبي : من أوحى إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه والرسول : من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه.
5- الإيمان بالبعث : وهو التصديق بإخراج الموتى من قبورهم أحياء يوم القيامة لفصل القضاء بينهم ومجازاتهم بأعمالهم على الصفة التي بينها الله في كتابه وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.
6- الإيمان بالقدر خيره وشره: وهو التصديق بأن الله سبحانه علم مقادير الأشياء وأزمانهم قبل وجودها ثم كتبها في اللوح المحفوظ ثم أوجدها بقدرته ومشيئته في مواعيدها المقدرة: فكل محدث من خير أو شر فهو صادر عن علمه وتقديره ومشيئته وارادته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
   هذا شرح مجمل لأصول الإيمان وسيأتي ـ إن شاء الله شرحها مفصلا.
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل. ومن غير تكييف ولا تمثيل.

 
 
الشرح:
بعد ما ذكر المصنف رحمه الله الأصول التي يجب الإيمان بها مجملة شرع يذكرها على سبيل التفصيل وبدأ بالأصل الأول وهو الإيمان بالله تعالى فذكر أنه يدخل فيه الإيمان بصفاته التي وصف نفسه بها في كتابه أو وصفه بها رسوله في سنته وذلك بأن نثبتها له كما جاءت في الكتاب والسنة بألفاظها ومعانيها من غير تحريف لألفاظها ولا تعطيل لمعانيها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين . وأن نعتمد في إثباتها على الكتاب والسنة فقط لا نتجاوز القرآن والحديث لأنها توقيفية.
والتحريف هو التغيير وإمالة الشيء عن وجهه يقال انحرف عن كذا إذا مال ـ وهو نوعان:ـ
النوع الأول : تحريف اللفظ وهو العدول به عن جهته إلى غيرها إما بزيادة كلمة أو حرف أو نقصانه أو تغيير حركة. كقول أهل الضلال في قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أي استولى فزادوا في الآية حرفا وكقولهم في قوله تعالى : ( وجاء ربك ) أي أمر ربك فزادوا كلمة . وكقولهم في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) بنصب لفظ الجلالة فغيروا الحركة الإعرابية من الرفع إلى النصب.
النوع الثاني: تحريف المعنى ـ وهو العدول به عن وجهه وحقيقته وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر كقوله المبتدعة : أن معنى الرحمة : إرادة الأنعام . وأن معنى الغضب إرادة الانتقام.
والتعطيل : لغة الإخلاء ـ يقال عطله أي أخلاه والمراد به هنا نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى : والفرق بين التحريف والتعطيل: أن التحريف هو نفي المعنى الصحيح الذي دلت عليه النصوص واستبداله بمعنى آخر غير صحيح . والتعطيل هو نفي المعنى الصحيح من غير استبدال له بمعنى آخر كفعل المفوضة ـ فكل محرف فهو معطل وليس كل معطل محرفا.
 والتكييف : هو تعيين كيفية الصفة ـ يقال: كيف الشيء إذا جعل له كيفية معلومة ـ فتكييف صفات الله هو تعيين كيفيتها والهيئة التي تكون عليها وهذا لا يمكن للبشر لأنه مما استأثر الله تعالى بعلمه فلا سبيل إلى الوصول إليه ـ لأن الصفة تابعة للذات ـ فكما أن ذات الله لا يمكن للبشر معرفة كيفيتها ـ فكذلك صفته سبحانه لا تعلم كيفيتها . ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله فقيل له : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وهذا يقال في سائر الصفات.
والتمثيل هو التشبيه بأن يقال إن صفات الله مثل صفات المخلوقين كأن يقال يد الله كأيدينا وسمعه كسمعنا تعالى الله عن ذلك قال تعالى في الآية (11) من سورة الشورى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) فلا يقال في صفاته إنها مثل صفاتنا أو شبه صفاتنا أو كصفاتنا ـ كما لا يقال إن ذات الله مثل أو شبه ذواتنا ـ فالمؤمن الموحد يثبت الصفات كلها على الوجه اللائق بعظمة الله وكبريائه. والمعطل ينفيها أو ينفي بعضها . والمشبه الممثل يثبتها على وجه لا يليق بالله وإنما يليق بالمخلوق.
بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه. ولا يحرفون الكلام عن مواضعه.

 
 
الشرح :
   لما ذكر المصنف رحمه الله أن الواجب هو الإيمان بصفات الله الثابتة في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بين موقف أهل السنة والجماعة من ذلك وهو أنهم يؤمنون بتلك الصفات على هذا المنهج المستقيم فيثبتونها على حقيقتها نافين عنها التمثيل فلا يعطلون ولا يمثلون على وفق ما جاء في قوله تعالى في الآية (11) من سورة الشورى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) فقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) رد على الممثلة . وقوله : ( وهو السميع البصير ) رد على المعطلة لأن فيه إثبات السمع والبصر فالآية الكريمة دستور واضح في باب الأسماء والصفات لأنها جمعت بين إثبات الصفات لله ونفي التمثيل عنها . وسيأتي تفسيرها إن شاء الله .
   وقوله : ( فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ) أي لا يحمل أهل السنة والجماعة إيمانهم بان الله ليس كمثله شيء على أن ينفوا عنه ما وصف به نفسه كما يفعل ذلك الذين غلوا في التنزيه حتى عطلوه من صفات تخصه وتليق به وللمخلوقين . فأهل السنة يقولون لله سبحانه صفات تخصه وتليق به وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم ولا تشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق فلا يلزم هذا المحذور الذي ذكرتم أيها المعطلة.
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه.

 
وقوله: ( ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ) تقدم بيان معنى التحريف ـ أي لا يغيرون كلام الله فيبدلون ألفاظه أو يغيرون معانيه فيفسرونه بغير تفسيره كما يفعل المعطلة الذين يقولون في:
( استوى ) استولى وفي : ( وجاء ربك ) جاء أمر ربك ويفسرون رحمة الله بإرادة الأنعام ونحو ذلك.
 
الشرح:

   ( ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ) الإلحاد لغة : الميل والعدول عن الشيء ـ ومنه اللحد في القبر سمي بذلك لميله وانحرافه عن سمة الحفر إلى جهة القبلة ـ والإلحاد في أسماء الله وآياته هو العدول والميل بها عن حقائقها ومعانيها الصحيحة إلى الباطل.
والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع:ـ
   النوع الأول : أن تُسمى الأصنام بها ـ كتسمية اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان.
   النوع الثاني : تسميته سبحانه وتعالى بما لا يليق به كتسمية النصارى له أبا ـ وتسمية الفلاسفة له موجبا أو علة فاعلة.
   النوع الثالث : وصفه سبحانه وتعالى بما ينزه عنه من النقائص كقول اليهود الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم يد الله مغلولة وأنه استراح يوم السبت ـ تعالى الله عما يقولون ـ
   النوع الرابع : جحد معانيها حقائقها ـ كقول الجهمية إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني ـ فالسميع لا يدل على سمع والبصير لا يدل على بصر والحي لا يدل على حياة ونحو ذلك.
   النوع الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه ـ كقول الممثل يده كيدي إلى غير ذلك ـ تعالى الله . وقد توعد الله الملحدين في أسمائه وآياته بأشد الوعيد فقال سبحانه في الآية (180) من سورة الأعراف (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقال في الآية (140) من سورة فصلت : (إٍنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ).
قوله : ( ولا يكيفون ولا يمثلون ) الخ تقدم بيان معنى التكييف والتمثيل.
لأنه سبحانه لا سمى له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى . فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه.

 
 
الشرح :
   ( لأنه سبحانه لا سمى له ) هذا تعليل لما سبق من قوله عن أهل السنة : ( ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه ) و ( سبحانه ) سُبحان مصدر مثل غُفران ـ من التسبيح وهو التنزيه ( لا سمى له ) أي لا نظير له يستحق مثل اسمه كقوله تعالى كقوله تعالى في الآية (65) من سورة مريم ( هل تعلم له سميا ) استفهام معناه النفي أي لا أحد يساميه أو يماثله
( ولا كفؤ له ) الكفؤ هو المكافئ المماثل أي لا مثل له كقوله تعالى في سورة الإخلاص :
(وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) ( ولا ند له ) الند : هو الشبيه والنظير قال تعالى في الآية (22) من سورة البقرة :( فلا تجعلوا لله أندادا ) ( ولا يقاس بخلقه ) القياس في اللغة التمثيل ـ أي لا يشبه ولا يمثل بهم ، قال سبحانه في الآية (74) من سورة النحل : ( فلا تضربوا لله الأمثال ) فلا يقاس سبحانه بخلقه لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله وكيف يقاس الخالق الكامل بالمخلوق الناقص ـ تعالى الله عن ذلك ( فانه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره ) وهذا تعليل لما سبق من وجوب إثبات له من الصفات ومنع قياسه بخلقه فانه إذا كان أعلم بنفسه وبغيره . وجب أن يثبت له من الصفات ما أثبته لنفسه وأثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم . والخلق لا يحيطون به علما فهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول المخلوقين فيجب علينا أن نرضى بما رضيه لنفسه فهو أعلم بما يليق به ونحن لا نعلم ذلك. وهو سبحانه : ( أصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه ) فما أخبر به فهو صدق وحق ما يليق به من الأسماء والصفات أتم بيان فيجب قبول ذلك والتسليم له.
ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه مالا يعلمون

 
 
الشرح:ـ
ولهذا قال : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين )(1) فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب.

 
   ( ثم رسله صادون مصدقون ) هذا عطف على قوله : ( فإنه أعلم بنفسه . الخ ) الصدق: مطابقة الخبر للواقع ـ أي صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى ـ مصدقون أي فيما يأتيهم من الوحي بواسطة الملائكة لأنه من عند الله فهم لا ينطقون عن الهوى . وهذا توثيق لسند الرسل عليهم الصلاة والسلام فقد قيل لهم الحق وبلغوه للخلق فيجب قبول ما وصفوا الله به فهم ( بخلاف الذين يقولون عليه ملا يعلمون ) أي بخلاف الذين يقولون على الله بلا علم في شرعه ودينه وفي أسمائه وصفاته بل بمجرد ظنونهم وتخيلاتهم أو بما يتلقونه عن الشيطان كالمتنبئين الكذبة والمبتدعة والزنادقة والسحرة والكهان والمنجمين وعلماء السوء كما قال تعالى: في الآيات (221-223) من سورة الشعراء (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ) وقال تعالى في الآية (79) من سورة البقرة ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولن هذا من عند الله ) الآية فإذا كان الله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره وكان أصدق قولا وأحسن حديثا من خلقه وكان رسله عليهم الصلاة والسلام صادقين في كل ما يخبرون به عنه والواسطة بينهم وبين الله التي تأتيهم بالوحي من عنده واسطة صادقة من ملائكته الكرام وجب التعويل إذاً على ما قاله الله ورسله لاسيما في باب الأسماء والصفات نفيا وإثباتا. ورفض ما قاله المبتدعة والضلال ممن يدّعى المجاز في الأسماء والصفات وينفيها بشتى وسائل النفي معرضين عما جاءت به الرسل . معتمدين على أهوائهم أو مقلدين لمن لا يصلح للقدوة من الضلال.
 
الشرح :

المفردات :
ولهذا : تعليل لما سبق من كون كلام الله وكلام رسله أصدق وأحسن .
سبحان: اسم مصدر من التسبيح وهو التنزيه.
ربك : الرب هو المالك السيد المربي لخلقه بنعمه .
العزة : القوة والغلبة والمنعمة . وإضافة الرب إلى العزة من إضافة الموصوف إلى الصفة.
يصفون : أي يصفه به المخالفون للرسل مما لا يليق بجلاله.
وسلام : قيل هو من السلام بمعنى التحية . وقيل من السلامة من المكاره.
على المرسلين : الذين أرسلهم الله إلى خلقه وبلغوا رسالات ربهم جمع مرسل وتقدم تعريفه.
العالمين : جمع عالم وهم كل من سوى الله.
المعنى الإجمالي : قد بينه الشيخ رحمه الله بقوله : فسبح نفسه ... الخ
ما يستفاد من الآيات
1- تنزيه الله سبحانه عما يصفه به الضلال والجهال مما لا يليق بجلاله.
2- صدق الرسل ووجوب قبل ما جاءوا به وما أخبروا به عن الله.
3- مشروعية السلام على الرسل عليهم الصلاة والسلام واحترامهم.
4- رد كل ما يخالف ما جاءت به الرسل لاسيما ما يتعلق بأسماء الله وصفاته.
5-
وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات . فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون فانه الصراط المستقيم.

 
مشروعية الثناء على الله وشكره على نعمه التي من أجلها نعمة التوحيد.
الشرح :
   ( وهو سبحانه قد جمع الخ هذا بيان للمنهج الذي رسمه الله في كتابه لإثبات أسمائه وصفاته وهو المنهج الذي يجب أن يسير عليه المؤمنون في هذا الباب المهم فانه سبحانه: ( قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه ) أي في جميع أسمائه وصفاته ( بين النفي والإثبات ) وهو نفي ما يضاد الكمال من أنواع العيوب والنقائض كنفي الند والشريك والسنة والنوم والموت واللغوب وأما الإثبات فهو إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال لله كقوله تعالى في الآيتين (23-24) من سورة الحشر ( هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق الباري المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) وغير ذلك مما سيذكر له المؤلف نماذج فيما يأتي.
   وقوله: ( فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون ) أي لا ميل لهم ولا انحراف عن ذلك . بل هم مقتفون آثارهم مستضيئون بأنوارهم ومن ذلك إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما لا يليق به فان الرسل قد قرروا ذلك الأصل العظيم وأما أعداء الرسل فإنهم قد عدلوا عن ذلك وقوله : ( فانه الصراط المستقيم والصراط المستقيم هو الطريق المعتدل الذي لا تعدد فيه ولا انقسام وهو المذكور في قوله تعالى : من سورة الفاتحة ( اهدنا الصراط المستقيم ) وقوله في الآية (153) من سورة الأنعام ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) وهو الذي ندعو الله في كل ركعة من صلواتنا أن يهدينا إليه .
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

 
 
الشرح :
   أي أن الصراط المستقيم الذي جاء به المرسلون في الاعتقاد وغيره وسلكه أهل السنة والجماعة هو ( صراط الذين أنعم الله عليهم ) أي أنعم الله عليهم الإنعام المطلق التام المتصل بسعادة الأبد وهم الذين أمرنا الله أن ندعوه أن يهدينا طريقهم فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة وهم :ـ
1- النبيون ـ جمع نبي ـ وهم الذين أختصهم الله بنبوته ورسالته وتقدم تعريفهم
2- الصديقون : جمع صديق وهو المبالغ في الصدق والتصديق ـ أي المبالغ في الانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم مع كمال الإخلاص لله .
3- الشهداء ـ جمع شهيد ـ وهو المقتول في سبيل الله ـ سمى بذلك لأنه مشهود له بالجنة ولأن ملائمة الرحمة تشهده.
4- الصالحون ـ جمع صالح وهو القائم بحقوق الله وحقوق عباده.
   والصراط تارة يضاف إلى الله تعالى كقوله تعالى في الآية (153) من سورة الأنعام
( وأن هذا الصراط مستقيما فاتبعوه ) لأنه هو الذي شرعه ونصبه وتارة يضاف إلى العباد كما في قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) لكونهم سلكوه وفي قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم ) تنبيه على الرفيق في هذا الطريق وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ليزول عن سالك هذا الطريق وحشة التفرد عن أهل زمانه إذا استشعر أن رفقته على هذا الصراط الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون .
   ثم أورد الشيخ رحمه الله فيما يلي: نماذج من الكتاب والسنة تشتمل على إثبات أسماء الله وصفاته وفيما يلي إيراد ذلك.
الاستدلال على اثبات أسماء الله وصفاته من القرآن الكريم
1- الجمع بين النفي والإثبات في وصفه تعالى :
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن . حيث يقول : ( قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد )

 
 
الشرح :
   ( وقد دخل في هذه الجملة ) أي التي تقدمت وهي قوله : ( وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات ) فأراد هنا أن يورد ما يدل على ذلك من الكتاب والسنة وبدأ بسورة الإخلاص لفضلها ـ وسميت بذلك لأنها أخلصت في صفات الله ولأنها تخلص قارئها من الشرك قوله ( التي تعدل ثلث القرآن ) أي تساويه وذلك لأن معاني القرآن ثلاثة أنواع : توحيد وقصص . وأحكام وهذه الصورة فيها صفة الرحمن فهي في التوحيد وحده فصارت تعدل ثلث القرآن والدليل على أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا سمع رجلا يقرأ ( قل هو الله أحد ) يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك وكأن الرجل يتقالها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ) قال الإمام ابن القيم : والأحاديث بكونها تعدل ثلث القرآن تكاد تبلغ التواتر ( حيث يقول ) الله جل شأنه : ( قل ) أي يا محمد وفي هذا دليل على أن القرآن كلام الله إذ لو كان كلام محمد أو غيره لم يقل ( قل ) ، ( الله أحد ) أي واحد لا نظير له ولا وزير ولا مثيل ولا شريك له ( الله الصمد ) أي السيد الذي كمل في سؤدده وشرفه وعظمته وفي جميع صفات الكمال والذي تصمد إليه الخلائق وتقصده في جميع حاجاتها ومهماتها ( لم يلد ولم يولد ) أي ليس له ولد ولا والد وفيه الرد على النصارى ومشركي العرب الذين نسبوا لله الولد ( ولم يكن له كفوا أحد ) أي ليس له مكافئ ولا مماثل ولا نظير والشاهد من هذه السورة : أنها تضمنت وجمعت بين النفي والإثبات فقوله : ( الله أحد الله الصمد ) إثبات وقوله ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) نفي
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول :( الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما ـ أي لا يكثره ولا يثقله ـ وهو العلي العظيم (2) ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح 

 
 
الشرح :
   ( وما وصف به نفسه في أعظم آية من كتابه ) أي ودخل في الجملة السابقة ما وصف الله به نفسه الكريمة ( في أعظم آية ) والآية في اللغة العلامة والمراد بها هنا طائفة من كلمات القرآن متميزة عن غيرها بفاصلة وتسمى هذه الآية التي أوردها هنا آية الكرسي لذكر الكرسي فيها ـ والدليل على أنها أعظم آية في القرآن ما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله وسلم سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال أبي : آية الكرسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليهنك العلم أبا المنذر ) وسبب كونها أعظم آية لما اشتملت عليه من إثبات أسماء الله وصفاته وتنزيهه عما لا يليق به فقوله تعالى ( الله لا اله إلا هو ) أي لا معبود بحق إلا هو وما سواه فعبادته من أبطل الباطل ( الحي ) أي الدائم الباقي الذي له كمال الحياة والذي لا سبيل للفناء عليه ( القيوم ) أي القائم بنفسه المقيم لغيره ـ فهو غني عن خلقه وخلقه محتاجون اليه ـ وقد ورد أن ( الحي القيوم ) هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى لدلالة ( الحي ) على الصفات الذاتية،ودلالة ( القيوم ) على الصفات الفعلية فالصفات كلها ترجع إلى هذين الاسمين الكريمين العظيمين ولكمال قيوميته ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) السنة النعاس وهو نوم خفيف ويكون في العين فقط والنوم أقوى من السنة وهو أخو الموت ويكون في القلب ( له ما في السموات وما في الأرض ) ملكا وخلقا وعبيدا فهو يملك العالم العلوي والسفلي ( من ذا الذي ) أي لا أحد
( يشفع عنده ) الشفاعة مشتقة من الشفع وهو ضد الوتر فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال غيره فصيره شفعا بعد أن كان وترا والشفاعة سؤال الخير للغير بمعنى أن يسأل المؤمن ربه أن يغفر ذنوب وجرائم بعض المؤمنين لكنها ملك لله سبحانه فلا تكون ( إلا باذنه ) أي بأمره وذلك لكبريائه وعظمته سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يتقدم اليه بالشفاعة عنده لأحد إلا بعد أن يأذن ( يعلم ما بين أيدهم وما خلفهم ) أي علمه واطلاعه محيط بالأمور الماضية والمستقبلة فلا يخفي عليه منها شيء ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) أي العباد لا يعلمون شيئا من علم الله إلا ما علمهم الله إياه على ألسنة رسله وبطرق وأسباب متنوعة ( وسع كرسيه السموات والأرض ) كرسيه سبحانه قيل إنه العرش وقيل انه غيره فقد ورد أنه موضع القدمين ـ وهو كرسي بلغ من عظمته وسعته أنه وسع السموات والأرض ( ولا يؤوده حفظهما ) أي لا يكرثه ولا يشق عليه ولا يثقله حفظ العالم العلوي والسفلي لكمال قدرته وقوته ( وهو العلي ) أي له العلو المطلق علو الذات بكونه فوق جميع المخلوقات ( على العرش استوى ) وعلو القدر فله كل صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلو القهر فهو القادر على كل شيء المتصرف في كل شيء لا يمتنع عليه شيء ( العظيم ) الذي له جميع صفات العظمة وله التعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وعباده المؤمنين ـ فحقيق بآية تحتوى على هذه المعاني أن تكون أعظم آية في القرآن وأن تحفظ قارئها من الشرور والشياطين.
 والشاهد منها : أن الله جمع فيها فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات فقد تضمنت إثبات صفات الكمال ونفي النقص عن الله ـ ففي قوله : ( الله لا اله هو ) نفي الإلهية عما سواه وإثباتها له . وفي قوله ( الحي القيوم ) إثبات الحياة والقيومية له ـ وفي قوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) نفي السنة والنوم عنه وفي قوله : ( له ما في السموات وما في الأرض ) إثبات ملكيته الكاملة للعالمين العلوي والسفلي ـ وفي قوله ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) نفي الشفاعة عنده بغير أذنه لكمال عظمته وغناه عن خلقه وفي قوله :
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) إثبات كمال علمه لكل شيء ماضيا أو مستقبلاـ وفي قوله ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) بيان حاجة الخلق إليه واثبات غناه عنهم ـ وفي قوله : ( وسع كرسيه السموات والأرض ) إثبات كرسيه وإثبات كمال عظمته وجلالته وصغر المخلوقات بالنسبة إليه : وفي قوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) نفي العجز والتعب عن سبحانه ـ وفي قوله ( وهو العلي العظيم ) إثبات العلو والعظمة له سبحانه وقول المصنف رحمه الله : ( ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح ) يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه : ( إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي : ( الله لا اله إلا هو الحي القيوم ) ، حتى تختم الآية فانك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ) الحديث. والشيطان يطلق على كل متمرد عات من الجن والإنس ـ من ( شطن ) إذا بعد ـ سمي بذلك لبعده من رحمة الله ـ أو من شاط يشيط إذا اشتد.
2- الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته
وقوله سبحانه : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم )(3)

 
 
الشرح :
قوله ( هو الأول والآخر ) الآية ـ هذه الآية الكريمة قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله وسلم قال : ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ) .
   فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء الأربعة بهذا التفسير المختصر الواضح وفي هذه الأسماء المباركة إحاطته سبحانه من كل وجه ـ ففي أسمه الأول والآخر إحاطته الزمانية ـ وفي أسمه الظاهر والباطن إحاطته المكانية قال الإمام ابن القيم رحمه الله : فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان لأزليته وأبديته سبحانه : واسمان لعلوه وقربه فأوليته سبحانه سابقة على أولية كل ما سواه وأخريته سبحانه ثابتة بعد أخرية كل ما سواه فأوليته سبقه لكل شيء وأخريته بقاؤه بعد كل شيء وظاهريته فوقيته وعلوه على كل شيء ومعنى الظهور يقتضي العلو وظاهر الشيء ما علا منه وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب الإحاطة العامة أ هـ وقوله تعالى : ( وهو بكل شيء عليم ) أي قد أحاط علمه بكل شيء من الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة ومن العالم العلوي والسفلي ومن الظواهر والبواطن لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .
   والشاهد من الآية الكريمة : إثبات هذه الأسماء الكريمة لله المقتضية لإحاطته بكل شيء زمانا ومكانا واطلاعا وتقديرا وتدبيرا تعالى وتقدس ( علوا كبيرا )
وقوله سبحانه ( وتوكل على الحي الذي لا يموت (4) وقوله : ( وهو الحكيم الخبير (5) )

 
  
الشرح :
   ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) أبدا أي فوض أمورك إليه فالتوكل لغة : التفويض ـ يقال وكلت أمري إلى فلان أي فوضته ومعناه شرعا : اعتماد القلب على الله في جلب ما ينفع ودفع ما يضر والتوكل على الله نوع من أنواع العبادة وهو واجب ولا ينافي الأخذ بالأسباب بل يتفوق معه تماما وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في تحصيل المصالح ولا حياة على الدوام إلا لله سبحانه وأما الأحياء المنقطعة حياتهم فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم .
   والشاهد من الآية الكريمة : إن فيها إثبات الحياة الكاملة لله سبحانه ونفي الموت عنه ففيها الجمع بين النفي والإثبات في صفات الله تعالى .
   وقوله : ( وهو الحكيم ) له معنيان أحدهما : أنه الحاكم بين خلقه بأمره الكوني وأمره الشرعي في الدنيا والآخرة ـ والثاني : انه المحكم المتقن للأشياء مأخوذ من الحكمة وهي وضع الأشياء في مواضعها ـ فهو سبحانه الحاكم بين عباده الذي له الحكمة في خلقه وأمره لم يخلق شيئا عبثا ولم يشرع إلا ما هو عين المصلحة ( الخبير ) من الخبرة وهي الإحاطة ببواطن الأشياء وظواهرها ـ يقال : خبرت الشيء إذا عرفته على حقيقته. فهو سبحانه الخبير أي الذي أحاط ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها .
   والشاهد من الآية أن فيها إثبات اسمين من أسمائه سبحانه الحكيم الخبير وهما يتضمنان صفتين من صفاته وهما الحكمة والخبرة.
3- إحاطة علمه بجميع مخلوقاته
( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرض فيها )(6) ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (7) )

 
 
الشرح :
   ( يعلم ما يلج في الأرض ) أي ما يدخل فيها من القطر والبذور والكنوز والموتى وغير ذلك ( وما يخرج منها ) أي من الأرض من النبات والمعادن وغير ذلك ( وما ينزل من السماء ) أي من المطر والملائكة وغير ذلك ( وما يعرج فيها ) أي يصعد في السماء من ملائكة وأعمال وغير ذلك .
   والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات علم الله سبحانه المحيط بكل شيء وقوله :
( وعنده مفاتح الغيب ) أي عند الله وحده خزائن الغيب. أو ما يتوصل به إلى علمه ( لا يعلمها إلا هو ) فمن ادعى علم شيء منها فقد كفر وقد ورد تفسير مفاتح الغيب في الحديث الذي رواه ابن عمر كما في الصحيحين عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ هذه الآية : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )
( ويعلم ما في البر ) أي اليابس المعمور والقفار من السكان والنبات والدواب وغير ذلك
( والبحر ) أي يعلم ما فيه من الحيوانات والجواهر ونحو ذلك ( وما تسقط من ورقة ) أي من أشجار البر والبحر وغير ذلك ( إلا يعلمها ) أي يعلمها ويعلم زمان سقوطها ومكانه
( ولا حبة في ظلمات الأرض ) أي ولا تكون حبة في الأمكنة المظلمة أو في بطن الأرض ( ولا رطب ولا يابس ) من جميع الموجودات عموم بعد خصوص ( إلا في كتاب مبين ) أي لا يحصل شيء من ذلك إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ .
   وجه الشاهد من الآية : أن فيها إثبات أنه لا يعلم الغيب إلا الله وأن علمه محيط بكل شيء وفيها إثبات القدر والكتابة في اللوح المحفوظ .
( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) (8) ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) (9) وقوله : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) (10)

 
 
الشرح :
   ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به فلا يخرج عن علمه وتدبيره فيعلم سبحانه في أي يوم تحمل الأنثى وفي أي يوم تضع ونوع حملها هل هو ذكر أو أنثى ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ) اللام متعلقة بقوله تعالى : ( خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ) أي فعل ذلك لتعلموا كمال قدرته ( وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) أي ولتعلموا إحاطة علمه بالأشياء فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان و ( علما ) منصوب على التمييز أو على المصدر به لأن أحاط بمعنى علم .
   الشاهد من الآيتين : أن فيهما إثبات علم الله المحيط بكل شيء وإثبات قدرته على كل شيء .
   وقوله تعالى : ( إن الله هو الرزاق ) أي لا رازق غيره فهو الذي يرزق مخلوقاته ويقوم بما يصلحهم فهو كثير الرزق واسعه فلا تعبدوا غيره ( ذو القوة ) أي صاحب القوة التامة الذي لا يعتريه ضعف ( المتين ) أي البالغ في القوة والقدرة نهايتهما فلا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب. والمتانة معناها الشدة والقوة .
   الشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات اسمه الرزاق ووصفه بالقوة التامة التي لا يعتريها ضعف ولا تعب سبحانه وتعالى وفيها الاستدلال على وجوب عبادته وحده لا شريك له .
4- إثبات السمع والبصر لله سبحانه
وقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) (11) وقوله : ( إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) (12)

 
 
الشرح :
   ( ليس كمثله شيء ) أول الآية قوله تعالى : ( فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا ) قال الإمام ابن كثير في تفسيره : أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له أ هـ ( وهو السميع ) الذي يسمع جميع الأصوات ( البصير ) الذي يرى كل شيء ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء ـ قال الإمام الشوكاني في تفسيره : ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على جادة بيضاء واضحة ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله : ( وهو السميع البصير ) فان هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمماثل قد اشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة والبرهان القوى فانك تحطم بها كثيرا من البدع وتهشم بها رؤوسا من الضلالة وترغم بها أنوف طوائف من المتكلمين ولاسيما إذا ضممت إليه قول الله تعالى :
( ولا يحيطون به علما ) . أ هـ وقوله ( إن الله نعما ) قبله قوله : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) ( نعم ) من ألفاظ المدح و ( ما ) قيل نكرة موصوفة كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به ـ وقيل إن ما موصولة ـ أي نعم الشيء الذي يعظكم به وقوله : ( يعظكم ) أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل وقوله : ( إن الله كان سميعا بصيرا ) أي أنه سبحانه سميع لما تقولون بصير بما تفعلون .
   الشاهد من الآيتين الكريمتين : أن فيهما إثبات السمع والبصر لله وفي الآية الأولى نفى مماثلة المخلوقات ففي ذلك الجمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات.
5- إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه
وقوله : ( ولولا إذ دخلت جنتك ما شاء الله لا قوة ـ إلا بالله (13) ) ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (14) ) وقوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم الله يحكم ما يريد (15) )

 
الشرح :
   قوله ( ولولا إذ دخلت جنتك ) أي هلا إذ دخلت بستانك ( قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) أي إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها اعترافا بالعجز وأن القدرة لله سبحانه ـ قال بعض السلف : من أعجبه شيء فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله .
   وقوله : ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) أي لو شاء سبحانه عدم اقتتالهم لم يقتتلوا لأنه لا يجرى في ملكه إلا ما يريد لا راد لحكمه ولا مبدل لقضائه.
 وقوله تعالى : ( أحلت لكم ) أي أبيحت والخطاب للمؤمنين ( بهيمة الأنعام ) أي الإبل والبقر والغنم ( إلا ما يتلى عليكم ) استثناء من ( بهيمة الأنعام ) والمراد به المذكور في قوله :
( حرمت عليكم الميتة ) (16) الآية التي بعدها بقليل .
   وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) استثناء آخر من بهيمة الأنعام .
   والمعنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فانه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام فقوله : ( وأنتم حرم ) في محل نصب على الحال والمراد بالحرم من هو محرم بحج أو عمرة أو بهما ( إن الله يحكم ما يريد ) من التحليل والتحريم لا اعتراض عليه .
   الشاهد من الآيات : أن فيها إثبات المشيئة والقوة والحكم والإرادة صفات لله تعالى على ما يليق بجلاله .
وقوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصعد في السماء ) (17)

 
 
الشرح :
   ( فمن يرد الله أن يهديه ) أي من شاء الله سبحانه أن يوفقه ويجعل قلبه قابلا للخير و
( من ) : اسم شرط جازم ويرد مجزوم على أنه فعل الشرط ( يشرح صدره للإسلام ) مجزوم بجواب الشرط والشرح الشق وأصله التوسعة وشرح الأمر : بينته ووضحته والمعنى : يوسع الله صدره للحق الذي هو الإسلام حتى يقبله بصدر منشرح ( ومن يرد أن يضله ) أي ومن شاء سبحانه أن يصرفه عن قبول الحق ( يجعل صدره ضيقاً ) أي لا يتسع لقول الحق ( حرجا ) أي شديد الضيق فل يبقى فيه منفذ للخير وهو تأكيد لمعنى ( ضيقا )
( كأنما يصعد في السماء ) أصله يتصعد ـ أي كأنما تكلف مالا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء ـ شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء .
   الشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الإرادة لله سبحانه وأنها شاملة للهداية والإضلال ـ أي يريد الهداية ويريد الإضلال كونا وقدرا لحكمة بالغة
   فالإرادة الربانية نوعان
النوع الأول : إرادة كونية قدرية وهذه مرادفة للمشيئة ومن أمثلتها قوله تعالى ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) (18) وقوله تعالى : ( وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ) (19) وقوله : ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا )
النوع الثاني : إرادة دينية شرعية ـ ومن أمثلتها قوله تعالى : ( والله يريد أن يتوب عليكم ) الآية (27) النساء وقوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم ) الآية (6) المائدة وقوله تعالى : ( إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت ) الآية (33) الأحزاب
الفرق بين الإرادتين
1- الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها وقد لا يحبها ولا يرضاها والإرادة الشرعية لابد أنه يحبها ويرضاها. فالله أراد المعصية كونا ولا يرضاها شرعا.
2- الإرادة الكونية مقصودة لغيرها ـ كخلق إبليس وسائر الشرور لتحصل بسبب ذلك المجاهدة والتوبة والاستغفار وغير ذلك من المحاب والإرادة الشرعية مقصودة لذاتها ـ فالله أراد الطاعة كونا وشرعا وأحبها ورضيها.
3- الإرادة الكونية لابد من وقوعها والإرادة الشرعية لا يلزم وقوعها فقد تقع وقد لا تقع.
تنبيه : تجتمع الإرادتان الكونية والشرعية في حق المخلص المطيع وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي.
تنبيه آخر : من لم يثبت الإرادتين ويفرق بينهما فقد ضل كالجبرية والقدرية فالجبرية أثبتوا الإرادة الكونية فقط والقدرية أثبتوا الإرادة الشرعية فقط ـ وأهل السنة أثبتوا الإرادتين وفرقوا بينهما.
6- إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله
وقوله : ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (20)) ( وأقسطوا أن الله يحب المقسطين (21)) ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين )(22) ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (23)) وقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (24) ) وقوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه (25) ) وقوله : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (26) ) وقوله : ( وهو الغفور الودود (27) )

 
 
الشرح :
   لما ذكر الشيخ رحمه الله الآيات التي تدل على إثبات المشيئة والإرادة ذكر الآيات التي تدل على إثبات المحبة لله سبحانه وفي ذلك الرد على من سوى بين المشيئة والمحبة وقال إنهما متلازمان فكل ما شاء الله فقد أحبه وقد قدمنا أن في ذلك تفصيلا ـ فقد يشاء الله مالا يحبه ككفر الكافر وسائر المعاصي . وقد يشاء ما يحب كالإيمان وسائر الطاعات وقوله تعالى
( وأحسنوا ) هذا أمر من الله تعالى بالإحسان وهو الإتيان بالعمل على أحسن أحواله وأكملها والإحسان هو أعلى مقامات الطاعة ( إن الله يحب المحسنين ) هذا تعليل للأمر بالإحسان فهو أمر به لأنه يحبه ويحب أهله فيكون ذلك حافزا على امتثال الأمر به. وقوله تعالى ( وأقسطوا ) أمر بالإقساط وهو العدل في المعاملات والأحكام مع القريب والبعيد ( إن الله يحب المقسطين ) تعليل للأمر بالإقساط فهو أمر به لأنه ( يحب المقسطين ) أي العادلين ومحبته سبحانه لهم تستلزم أن يجزيهم أحسن الجزاء وقوله تعالى : ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) أي ما استقام لكم المشركون على العهد فلم ينقضوه فاستقيموا على الوفاء لهم فلا تقاتلوهم ( إن الله يحب المتقين ) تعليل للأمر بالاستقامة على العهد فهو أمر بها لأنها من أعمال المتقين الذين يحبهم الله وفيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين الذين يحبهم الله وفيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين الذين يحبهم الله وفيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين والتقوى هي التحرز بطاعة الله عن معصيته رجاء ثوابه وخوفا من عقابه وقوله تعالى : ( إن الله يحب التوابين ) التوابين : جمع تواب صيغة مبالغة من التوبة وهي لغة : الرجوع وشرعا : الرجوع عن الذنب هذا تفسيرها في حق العبد ـ وأما في حق الله فالتواب من أسماء الله تعالى ـ قال ابن القيم : العبد تواب ـ والله تواب ـ فتوبة العبد رجوعه إلي سيده وتوبة الله نوعان ـ إذن وتوفيق وقبول واعتداد ( ويحب المتطهرين ) المتطهرين ـ جمع متطهر اسم فاعل من الطهارة وهي النزاهة والنظافة عن الأقذار حسية كانت أو معنوية وفي الآية الكريمة إخبار من الله سبحانه عن محبته لهذين الصنفين من عباده التوابين والمتطهرين وقوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) سبب نزول هذه الآية الكريمة كما ذكره ابن كثير وغيره : أن قوما زعموا أنهم يحبون الله فابتلاهم الله ( أي أختبرهم ) بهذه الآية فهي حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه وقوله : ( يحببكم الله ) أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول ـ وقوله تعالى : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) هذا جواب الشرط في قوله : ( من يرتد منكم عن دينه ) يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته أنه يستبدل به من هو خير منه وهم قوم متصفون بصفات عظيمة من أعظمها أن الله يحبهم وهم يحبونه ـ والمراد بهم أبو بكر الصديق وجيشه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم الذين قاتلوا أهل الردة ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين إلى يوم القيامة وقوله تعالى : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله ) إخبار منه مؤكد أنه سبحانه يحب من اتصف بهذه الصفة ( الذين يقاتلون في سبيله ) أي يجاهدون بأموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمة الله ( صفا ) أي يصفون أنفسهم عند القتال ولا يزولون عن أماكنهم ( كأنهم بنيان مرصوص ) قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه ببعض فليس فيه فرجة ولا خلل وقوله ( وهو الغفور ) أي كثير المغفرة ـ والغفر : الستر ـ فهو سبحانه يغفر لمن تاب إليه ـ أي يستر ذنوبه ويتجاوز عن خطاياه ( الودود ) من الود وهو خالص الحب فهو سبحانه ( ودود ) بمعنى أنه يحب أهل طاعته وفي ذكر هذين الاسمين الكريمين مقترنين سر لطيف وهو أنه يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه بعد ذلك .
   الشاهد من هذه الآيات الكريمة : أن فيها إثبات المحبة والمودة لله سبحانه وأنه يحب ويود بعض الأشخاص والأعمال والأخلاق فهو يحب بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه حكمته البالغة فهو يحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب المتقين ويحب المتبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم ويحب المجاهدين في سبيله ويحب التوابين والمتطهرين وفيها إثبات المحبة من الجانبين جانب العبد وجانب الرب ( يحبهم ويحبونه ) ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ففي ذلك الرد على من نفي المحبة من الجانبين كالجهمية والمعتزلة فقالوا : لا يُحِبُ ولا يُحَبُ وأولوا محبة العباد له بمعنى محبتهم عبادته وطاعته ومحبته للعباد بمعنى إحسانه إليهم وإثباتهم ونحو ذلك وهذا تأويل باطل لأن مودته ومحبته سبحانه وتعالى لعباده على حقيقتهما كما يليق بجلاله كسائر صفاته لبيان كمودة ومحبة المخلوق.
7- إثبات اتصافه بالرحمة والمغفرة سبحانه وتعالى
وقوله ( بسم الله الرحمن الرحيم) ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً (28) ) ( وكان بالمؤمنين رحيماً (29) ) ( ورحمتي وسعت كل شيء)(30) ( كتب ربكم على نفسه الرحمة (31) ) ( وهو الغفور الرحيم (32) ) ( فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين (33) )

 
 
الشرح :
وقوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم) تقدم تفسيرها في أول الكتاب ومناسبة ذكرها هنا أن فيها إثبات الرحمة لله تعالى صفة من صفاته كما في الآيات المذكورة بعدها – قال الإمام ابن القيم : الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم كما قال تعالى : ( وكان بالمؤمنين رحيما) ولم يجيء قط: رحمن بهم: وكان الأول للوصف والثاني للفعل فالأول دال على أن الرحمة وصفه والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته ا.هـ.
قوله : (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) هذا حكاية عن الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للذين آمنوا فيقولون: ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فـ (رحمة وعلما) منصوبان على التمييز المحول عن الفاعل – وفي ذلك دليل على سعة رحمة الله وشمولها. فما من مسلم ولا كافر إلا وقد نالته رحمة الله في الدنيا وأما الآخرة فتختص بالمؤمنين.
وقوله:( وكان بالمؤمنين رحيما) هذا إخبار من الله سبحانه أنه رحيم بالمؤمنين يرحمهم في الدنيا والآخرة – أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم وبصرهم الطريق الذي ضل عنه غيرهم – وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر ويدخلهم الجنة- وقوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة) أي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلا منه وإحساناً. وهذه الكتابة كونية قدرية لم يوجبها عليه أحد. وقوله: ( وهو الغفور الرحيم) يخبر سبحانه عن نفسه أنه متصف بالمغفرة والرحمة لمن تاب إليه وتوكل عليه ولو من أي ذنب كان كالشرك فإنه يتوب عليه ويغفر له ويرحمه. وقوله تعالى : ( فالله خير حافظا) هذا مما حكاه الله تعالى عن نبيه يعقوب عليه السلام حينما طلب منه بنوه أن يرسل معهم أخاهم. وتعهدوا بحفظه لهم إن حفظ الله سبحانه له خير من حفظكم. وهذا تفويض من يعقوب إلى الله في حفظ ابنه – ومن أسمائه تعالى الحفيظ الذي يحفظ عباده بحفظه العام من الهلاك والعطب ويحفظ عليهم أعمالهم. ويحفظ عباده المؤمنين بحفظه الخاص عما يفسد إيمانهم وعما يضرهم في دينهم ودنياهم.
الشاهد من الآيات الكريمة : أن فيها وصف الله سبحانه وتعالى بالرحمة والمغفرة على ما يليق بجلاله كسائر صفاته. وفيها الرد على الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن ينفون عن الله اتصافه بالرحمة والمغفرة. فرارا من التشبيه بزعمهم قالوا: لأن المخلوق يوصف بالرحمة – وتأولوا هذه الآيات على المجاز وهذا باطل – لأن الله سبحانه أثبت لنفسه هذه الصفة. ورحمته سبحانه ليست كرحمة المخلوق حتى يلزم التشبيه كما يزعمون فإن الله تعالى ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) والاتفاق في الاسم لا يقتضي الاتفاق في المسمى فللخالق صفات تليق به وتختص به وللمخلوق صفات تليق به وتختص به والله أعلم.

8- ذكر رضي الله وغضبه وسخطه وكراهيته في القرآن الكريم وأنه متصف بذلك
وقوله : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه (34) ) وقوله : ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه (35) ) وقوله : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه (36) ) وقوله:( فلما آسفونا انتقمنا منهم (37) )وقوله:( ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) (38) وقوله:( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (39) )

 
 
الشرح :
قوله : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه) أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له ورضوا عنه بما جازاهم به من النعيم. والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم قال تعالى : ( ورضوان من الله أكبر) الآية (72) من سورة التوبة. ورضاهم عنه هو رضى كل منهم بمنزلته حتى يظن أنه لم يؤت أحد خيرا مما أوتي. وقوله ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا) احترز بقوله ( مؤمنا) عن قتل الكافر وبقوله:( متعمدا) عن قتل الخطأ – والمتعمد هو الذي يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به. وقوله ( فجزاؤه) أي عقابه في الآخرة ( جهنم) طبقة من طبقات النار ( خالدا فيها) أي مقيما في جهنم والخلود هو المكث الطويل (وغضب الله عليه) معطوف على مقدر دل عليه السياق أي جعل جزاؤه جهنم وغضب عليه (ولعنه) أي طرده عن رحمته واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. وقوله: ( ذلك بأنهم) أي ما ذكر في الآية قبلها من شدة توفي الملائكة للكفار من أجل أنهم ( اتبعوا ما أسخط الله) من الانهماك في المعاصي والشهوات المحرمة ( وكرهوا رضوانه) أي كرهوا ما يرضيه من الإيمان والأعمال الصالحة – وقوله : ( فلما آسفونا) أي اغضبونا ( انتقمنامنهم ) أي عاقبناهم ـ والانتقام هو اشد العقوبة .
   وقوله: ( ولكن كره الله انبعاثهم ) أي ابغض الله خروجهم معكم للغزو ( فثبطهم ) أي حبسهم عن الخروج معك . وخذلهم قضاء وقدرا وإن كان قد أمرهم بالغزو وشرعا . واقدرهم عليه حساً لكنه لم يعنهم لحكمه يعلمها . وقد بينها في الآية التي بعدها في قوله : (لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالا) الآية  
   وقوله : ( كبر مقتا ) أي عظم ذلك في المقت وهو البغض ـ وقتا منصوب علي التمييز ( أن تقولوا مالا تفعلون ) أي أن تعدوا من انفسكم خيرا ثم لا تفوا بما وعدتم . وقد ورد في سبب نزولها أن ناسا من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله أخبرنا بأحب الأعمال فنعمل به فأخبر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إيمان بالله لاشك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الأيمان ولم يقروا به فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره . فقال الله ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون )
   الشاهد من الآيات: أن فيها وصف الله بالغضب والرضا واللعن والانتقام والكراهية والأسف والمقت وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها جل وعلا متى شاء إذا شاء كيف يشاء . وأهل السنة يثبتون ذلك لله كما أثبته لنفسه علي ما يليق بجلاله .
9- ذكر مجيء الله سبحانه لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله
وقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر (40) ) وقوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك (41) )
( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ، وجاء ربك والملك صفا صفا (42) ) ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (43) )

 
 
الشرح:
   ( هل ينظرون ) هذا تهديد للكفار التاركين للدخول في السلم أي الإسلام المتبعين لخطوات الشيطان. ومعنى ( ينظرون ) ينتظرون يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد. ( إلا أن يأتيهم الله ) ذاته سبحانه لفصل القضاء بينهم يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله ( في ظلل من الغمام ) الظلل جمع ظلة وهي ما يظلك والغمام السحاب الرقيق الأبيض سمي بذلك لأنه يغم أي يستر ( والملائكة ) أي والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ( وقضي الأمر ) أي فرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم .
   وقوله : ( هل ينظرون إلى أن تأتيهم الملائكة ) أي لقبض أرواحهم ( أو يأتي ربك ) أي بذاته سبحانه لفصل القضاء بين العباد ( أو يأتي بعض آيات ربك ) وهو طلوع الشمس من مغربها ـ وذلك أحد أشراط الساعة الكبار إذا وقع أغلق باب التوبة فلا تقبل .
   وقوله : ( كلا ) حرف ردع وزجر عما ذكر قبلها أي ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم من عدم إكرام اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وأكل التراث وحب المال بكثرة شديدة
( إذا دكت الأرض دكا دكا ) أي زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك حتى انهدم كل ما عليها من بناء وعاد هباء منبثا ( وجاء ربك ) بذاته سبحانه لفصل القضاء بين عباده ( والملك ) أي جنس الملائكة ( صفا صفا ) منصوب على الحال أي مصطفين صفا بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس كل أهل سماء يكونون صفا واحدا محيطين بالأرض ومن فيها فيكونون سبعة صفوف.
   وقوله : ( ويوم تشقق السماء ) أي يوم القيامة ( تشقق السماء ) أي تنفطر وتنفرج بالغمام الذي هو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار ( ونزل الملائكة تنزيلا ) إلى الأرض فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ثم يجئ الرب لفصل القضاء بين عباده .
   الشاهد من الآيات : أنها أفادت إثبات المجيء والإتيان لله يوم القيامة بذاته على ما يليق بجلاله لفصل القضاء بين عباده ومجيئه وإتيانه سبحانه من صفاته الفعلية يجب إثباتهما على حقيقتهما ولا يجوز تأويلهما بمجيء أو إتيان أمره كما يفعله نفات الصفات ـ فيقولون : ( وجاء ربك ) أي جاء أمره وهذا من تحريف آيات الله ـ قال الإمام ابن القيم رحمه الله : والإتيان والمجيء المضاف إليه سبحانه نوعان: مطلق ومقيد – فإذا كان المراد مجيء رحمته أو عذابه ونحو ذلك قيد بذلك كما في الحديث ( حتى جاء الله بالرحمة والخير ) وقوله : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ) ـ النوع الثاني : الإتيان والمجيء المطلق فهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه كقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) وقوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) أ . هـ
10- إثبات الوجه لله سبحانه
وقوله ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ) (44) ( كل شيء هالك إلا وجهه ) (45)

 
 
الشرح :
   ( ويبقى وجه ربك ) هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى : ( كل من عليها فان ) يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم فان الرب سبحانه لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبدا ( ذو الجلال ) أي العظمة والكبرياء
( والإكرام ) أي المكرم لأنبيائه وعباده الصالحين. وقيل المستحق أن يكرم عن كل شيء لا يليق به. وقوله : ( كل شيء هالك ) أي كل من في السماء ومن في الأرض سيذهبون ويموتون ( إلا وجهه ) منصوب على الاستثناء ـ وهذا إخبار بأنه الدائم الباقي الذي تموت الخلائق ولا يموت.
   الشاهد من الآيتين : أن فيهما إثبات الوجه لله سبحانه وهو من صفاته الذاتية فهو وجه على حقيقته يليق بجلاله ( ليس كمثله شيء ) لا كما يزعم معطلة الصفات أن الوجه ليس على حقيقته وإنما المراد به الذات أو الثواب أو الجهة أو غير ذلك وهذه تأويلات باطلة من وجوه : منها أنه جاء عطف الوجه على الذات كما في الحديث : ( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم ) والعطف يقتضى المغايرة. ومنها أنه أضاف الوجه إلى الذات فقال : ( وجه ربك) ووصف الوجه بقوله: ( ذو الجلال والإكرام) فلو كان الوجه هو الذات لكان لفظ الوجه في الآية صلة ولقال : ( ذي الجلال والاكرام ) فلما قال ( ذو الجلال ) تبين أنه وصف للوجه لا للذات وأن الوجه صفة للذات ومنها : أنه لا يعرف في لغة أمة من الأمم أن وجه الشيء بمعنى ذاته أو الثواب والوجه في اللغة مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه وهو في كل شيء بحسب ما يضاف إليه .
11- إثبات اليدين لله تعالى في القرآن الكريم
وقوله: ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) (46) وقوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء (47) )

 
 
الشرح :
   ( ما منعك أن تسجد ) الخطاب لإبليس لعنه الله لما امتنع من السجود لآدم عليه السلام أي شيء صرفك وصدك عن السجود ( لما خلقت بيدي ) أي باشرت خلقه بيدي من غير واسطة وفي هذا تشريف وتكريم لآدم ـ قوله : ( وقالت اليهود ) اليهود في الأصل من قولهم
( هدنا إليك ) وكان اسم مدح ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازما لهم وان لم يكن فيه معنى المدح ـ وقيل سموا بذلك نسبة إلى يهود بن يعقوب عليه السلام ( يد الله مغلولة ) يخبر تعالى عنهم بأنهم وصفوه بأنه بخيل ، كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، لا أنهم يعنون أن يده موثقة
( غلت أيديهم ) هذا رد عليهم من الله تعالى بما قالوه ومقابلة لهم بما افتروه واختلقوه. وهكذا وقع لهم فان فيهم من البخل والحسد الشيء الكثير فلا ترى يهوديا إلا وهو من أبخل خلق الله
( ولعنوا بما قالوا ) معطوف على ما قبله والباء سببية ـ أي أبعدوا من رحمة الله بسبب هذه المقالة ثم رد عليهم سبحانه بقوله : ( بل يداه مبسوطتان ) أي بل هو في غاية ما يكون من الجود والعطاء فيداه مبسوطتان بذلك ( ينفق كيف يشاء ) جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده فإنفاقه على ما تقتضيه مشيئته فان شاء وسع وان شاء ضيق فهو الباسط القابض على ما تقتضيه حكمته .
الشاهد من الآيتين الكريمتين : أن فيهما إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى وأنهما يدان حقيقيتان لائقتان بجلاله وعظمته ليستا كيدي المخلوق ( ليس كمثله شيء ) وفي ذلك الرد على من نفى اليدين الحقيقيتين عن الله وزعم أن المراد باليد القدرة أو النعمة وهذا تأويل باطل وتحريف للقرآن الكريم ـ فالمراد يد الذات لا يد القدرة والنعمة إذ لو كان المراد باليد القدرة كما يقولون لبطل تخصيص آدم بخلقه بهما فان جميع المخلوقات حتى إبليس خلقت بقدرته فأي مزية لآدم على إبليس في قوله ( لما خلقت بيدي ) فكان يمكن لإبليس أن يقول وأنا خلقتني بيدك إذا كان المراد بها القدرة. وأيضا لو كان المراد باليد القدرة لوجب أن يكون لله قدرتان وقد أجمع المسلمون على بطلان ذلك وأيضا لو كان المراد باليد النعمة أنه خلق آدم بنعمتين وهذا باطل لأن نعم الله كثيرة لا تحصى وليست نعمتين فقط.
12- إثبات العينين لله تعالى
وقوله : ( فاصبر لحكم ربك فانك بأعيننا )(48) ( وحملناه على ذات ألواح ودسر تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر )(49) ( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) (50)

 
 
الشرح :
   (واصبر) الصبر لغة الحبس والمنع فهو حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي والتسخط وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ( لحكم ربك ) أي لقضائه الكوني والشرعي (فانك بأعيننا ) أي بمرأى منا وتحت حفظنا فلا تبال بأذى الكفار فإنهم لا يصلون إليك قوله : ( وحملناه) أي نوحا عليه السلام ( على ذات ألواح ودسر ) أي علي سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير شدت بها تلك الألواح مفردها : دسار ( تجري بأعيننا ) أي بمنظر ومرأى منا وحفظ لها ( جزاء لمن كان كفر ) أي فعلنا بنوح عليه السلام وبقومه ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كُفر به وجحد أمره وهو نوح عليه السلام .
   وقوله : ( وألقيت عليك محبة منى ) الخطاب لموسى عليه السلام أي وضعتها عليك فأحببتك وحببتك إلى خلقي ( ولتصنع على عيني ) أي ولتربي وتغذى بمرأى منى : أراك وأحفظك .
الشاهد من الآيات : أن فيها إثبات العينين لله حقيقة على ما يليق به سبحانه. فقد نطق القرآن بلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن ربكم ليس بأعور )(51) وذلك صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة فان ذلك عور ظاهر تعالى الله عنه . ولغة العرب جاءت بإفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه ـ فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفرد أفردوه وإن أضافوا إلى اسم جمع ظاهرا أو مضمرا فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ كقوله : ( تجرى بأعيننا ) وإن أضيف إلى ضمير جمع كقوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح في لغتهم جمعه كقوله ( فقد صغت قلوبكما ) وإنما هما قلبان فلا يلتبس على السامع قول المتكلم نراك بأعيننا ونأخذك بأيدينا ولا يفهم منه بشر على وجه الأرض عيونا كثيرة على وجه واحد والله أعلم .
13- إثبات السمع والبصر لله تعالى
وقوله : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) (52) وقوله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) (53)
( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) (54) وقوله : ( إنني معكما أسمع ورأى ) (55) وقوله ( ألم يعلم بأن الله يرى ) (56) ( الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم )(57) ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )(58)

 
الشرح :
   ( قد سمع الله قول التي ) وهي خولة بنت ثعلبة ( تجادلك ) أيها النبي أي تراجعك الكلام في شأن ( زوجها ) وهو أوس بن الصامت ذلك حين ظاهر منها ( وتشتكي إلى الله معطوف على ( تجادلك ) وذلك أنه كلما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمت عليه قالت : والله ما ذكر طلاقا ثم تقول : اشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وأن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلى جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ( والله يسمع تحاوركما ) أي تراجعكما في الكلام ( إن الله سميع بصير ) يسمع كل الأصوات ويبصر ويرى كل المخلوقات ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة .
   وقوله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا عن الله فقير ونحن أغنياء ) هم قوم من اليهود قالوا هذه المقالة لما أنزل الله : ( من الذي يقرض الله قرضا حسنا ) الآية رقم (245)من سورة البقرة قالوا ذلك تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك لأنهم أهل كتاب وإنما قالوا ذلك ليشككوا في دين الإسلام وقوله : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ) ما يسرون به في أنفسهم أو ما يتحادثون به سرا في مكان خال (ونجواهم) أي ما يتناجون به فيما بينهم – والنجوى ما يتحدث به الإنسان مع رفيقه ويخفيه عن غيره . ( بلى ) نسمع ذلك ونعلم به ( ورسلنا لديهم يكتبون ) أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل وقوله ك ( إنني معكما ) يقول تعالى لموسى وأخيه هارون عليهما السلام لما أرسلهما إلى فرعون ( إنني معكما) أي بحفظي وكلاءتي ونصري لكما ( أسمع وارى ) أي أسمع كلامكما وكلام عدوكما وأرى مكانكم ومكانه وما يجرى منكما ومنه وهذا تعليل لقوله ( لا تخافا ). قوله : ( ألم يعلم ) أبوجهل حينما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ( بأن الله يرى ) أي أما علم أن الله يراه ويسمع كلامه وسيجازيه على فعله أتم الجزاء. والاستفهام للتقريع والتوبيخ . قوله
( الذي يراك ) أي يبصرك ( حين تقوم ) للصلاة وحدك ( وتقلبك في الساجدين ) أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعا وساجداً وقائما ( أنه هو السميع ) لما تقوله (العليم) به -وقوله ( وقل اعملوا ) أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين ( اعملوا ) ما شئتم واستمروا على باطلكم ولا تحسبوا أن ذلك سيخفى ( فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) أي ستظهر أعمالكم للناس وترى في الدنيا ( وستردون ) بعد الموت ( إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون ) فيجازيكم على ذلك .
الشاهد من الآيات الكريمة : في هذه الآيات وصف الله سبحانه بالسمع والبصر وأنه تعالى يسمع ويبصر حقيقة على ما يليق به منزه عن صفات المخلوقين ومماثلتهم فالآيات صريحة في إثبات السمع والبصر حيث جاء فيها إثبات السمع لله بلفظ الماضي والمضارع واسم الفاعل سمع ويسمع وسميع . ولا يصح في كلام العرب أن يقال لشئ هو سميع بصير إلا وذلك الشيء  يسمع ويبصر هذا هو الأصل فلا يقال : جبل سميع بصير لأنه ذلك مستحيل إلا لمن يسمع ويبصر.
14- إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به
وقوله : ( هو شديد المحال ) (59) وقوله ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) (60) وقوله (ومكروا مكرا ومكرنا وهم لا يشعرون ) (61) وقوله:( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) ( 62)   

 
الشرح :
   قوله (وهو ) أي الله سبحانه ( شديد المحال ) المحل في اللغة الشدة – أي شديد الكيد- قال الزجاج : يقال ما حلته محالا إذ قاويته حتى يتبين أيكما أشد . وقال ابن الأعرابي : المحال المكر . فهو سبحانه شديد المكر وشديد الكيد – والمكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وقوله : ( مكروا ) أي الذين أحس عيسى منهم الكفر وهم كفار بني إسرائيل الذين أرادوا قتل عيسى وصلبه – والمكر : فعل شي يراد به ضده ( ومكر الله ) أي استدرجهم وجازاهم على مكرهم فألقى شبه عيسى على غيره – ورفع عيسى إليه ( والله خير الماكرين ) أي أقوالهم وأقدرهم على إيصال الضرر بمن يستحقه من حيث لا يشعر ولا يحتسب. وقوله :
( ومكروا ) أي الكفار الذين تحالفوا على قتل نبي الله صالح عليه السلام وأهله خفية خوفا من أوليائه ( ومكرنا مكرا ) جازيناهم بفعلهم هذا فأهلكناهم ونجينا نبينا ( وهم لا يشعرون ) بمكرنا– وقوله :( إنهم ) أي كفار قريش ( يكيدون كيدا) أي يمكرون لأبطال ما جاء به محمد r من الدين الحق ( وأكيد كيدا ) أي استدرجهم وأجازيهم على كيدهم فأخذهم على غرة وهم لا يشعرون .
الشاهد من الآيات : في هذه الآيات وصف الله بالمكر والكيد ونسبة ذلك إليه سبحانه حقيقة على بابه فان المكر إيصال الشئ إلى الغير بطريق خفي وكذلك الكيد والمخادعة والمكر والكيد نوعان : قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه – وحسن وهو إيصاله إلى من يستحقه عقوبة له فالأول مذموم – والثاني ممدوح . والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباد الله . والله أعلم والله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق . وقد علم أن المجازاة حسنة من المخلوق فكيف بالخالق سبحانه وتعالى .
   تنبيه : نسبة الكيد والمكر ونحوهما إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى : والفعل أوسع من الاسم ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا . لم يتسم منها بأسماء الفاعل – كأراد وشاء ولم يسم بالمريد والشائي.وكذا – مكر ويمكر. وأكيد كيدا ولا يقال الماكر والكائد لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم .
15- وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة
وقوله تعالى : ( إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قدير )( 63)
( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )(64) وقوله :( ولله العزة ولرسوله ) (65) وقوله عن إبليس :( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) (66) 

 
الشرح :
( إن تبدو خيراً ) أي تظهروه ( أو تخفوه ) فتعلموه سرا. ( أو تعفو عن سوء ) أي تتجاوزوا عمن أساء إليكم ( فان الله كان عفوا ) عن عباده يتجاوز عنهم ( قديرا ) الانتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فانه يعفو مع القدرة : قوله ( وليعفوا ) أي ليستر ويتجاوز ( أولو الفضل والسعة ) المذكورون في أول الآية ( وليصفحوا ) بالإعراض عن الجاني والإغماض عن جنايته ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) بسبب عفوكم وصفحكم عن المسيئين إليكم ( والله غفور ) كثير المغفرة (رحيم) كثير الرحمة – قوله : ( ولله العزة ولرسوله ) هذا رد على المنافقين الذين زعموا أن العزة لهم على المؤمنين والعزة هي القوة والغلبة وهي لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عبيده لا لغيرهم – وقوله عن إبليس ( فبعزتك ) أقسم بعزة الله تعالى : ( لأغوينهم أجمعين ) لأضلن بني أدم بتزيين الشهوات لهم وإدخال الشبهات عليهم حتى يصيروا غاوين جميعاً . ثم لما علم أن كيده لا ينجح إلا في أتباعه من أهل الكفر والمعاصي استثنى فقال : (إلا عبادك منهم المخلصين )
الشاهد من الآيات : أن فيها وصف الله بالعفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة وهي صفات كمال تليق به .
16- إثبات الاسم لله ونفي المثل عنه
وقوله : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام )(67) وقوله ( فاعبدوه واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا )( 68) ( ولم يكن له كفوا أحد )(69) ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون )(70) ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله )(71)

 
الشرح :
   ( تبارك اسم ربك ) البركة لغة النماء والزيادة – والتبريك الدعاء بالبركة – ومعنى
( تبارك اسم ربك ) تعاظم أو علا وارتفع شأنه – وهذا اللفظ لا يطلق إلا على الله ( ذي الجلال والاكرام ) تقدم تفسيره في آيات إثبات الوجه قوله ( فاعبدوه ) أي أفرده بالعبادة ولا تعبد معه غيره – والعبادة لغة : الذل والخضوع وشرعا : اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ( واصطبر لعباته ) أي اثبت على عبادته ولازمها واصبر على مشاقها ( هل تعلم له سميا ) الاستفهام للإنكار والمعنى أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة – وقوله : ( ولم يكن له كفوا أحد ) الكفء في لغة العرب النظير – أي ليس له نظير ولا مثيل ولا شريك من خلقه :  قوله ( فلا تجعلوا لله أندادا ) الند في اللغة المثل والنظير والشبيه – أي لا تتخذوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونهم معه وتساوونهم به في الحب والتعظيم
( وأنتم تعلمون ) أنه ربكم وخالقكم وخالق كل شئ وأنه لا ند له يشاركه في الخلق ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ) لما فرغ سبحانه من ذكر الدليل على وحدانيته في الآية التي قبلها أخبر أنه مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه وجليل قدرته وتفرده بالخلق أخبر أنه مع ذلك قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده من الأصنام العاجزة ( يحبونهم كحب الله ) أي أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة تلك الأنداد بل أحبوها حبا عظيماً وأفرطوا في حبها كما يحبون الله فقد سووهم بالله في المحبة لا في الخلق والرزق والتدبير
الشاهد من الآيات : أن فيها إثبات اسم الله وتعظيمه وإجلاله . وفيها نفي السمي والكفء والند عن سبحانه وهو نفي مجمل وهذه هي الطريقة الواردة في الكتاب والسنة فيما ينفي عن الله تعالى وهي أن ينفي عن الله عز و جل كل ما يضاد كما له الواجب من أنواع العيوب والنقائص .
17- نفي الشريك عن الله تعالى :
( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) ( 72) ( يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ) (73) ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا ) ( 74) ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون . عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ) (75) ( فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (76)( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون )( 77)

 
 
الشرح :
( وقل الحمد لله ) الحمد هو الثناء وأل فيه للاستغراق – أي الحمد كله لله ( الذي لم يتخذ ولدا ) أي ليس له ولد كما تقوله اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب ( ولم يكن له شريك في الملك ) أي ليس له مشارك في ملكه وربوبيته كما تقول الثنوية ونحوهم ممن يقول بتعدد الآلهة ( ولم يكن له ولي من الذل ) أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير فلا يُحالِفٌ أحدا ولا يستنصر بأحد ( وكبره تكبيرا ) أي عظمه وأجلَّه عما يقوله الظالمون . وقوله ( يسبح ما في السموات وما في الأرض ) أي تنزهه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب ( له الملك وله الحمد ) يختصان به ليس لغيره منهما شئ . وما كان لعباده من الملكية فهو من عطائه ( وهو على كل شئ قدير ) لا يعجزه شئ .
( تبارك ) فعل ماضي مأخوذ من البركة وهي النماء والزيادة المستقرة الثابتة الدائمة – وهذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه . ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي ( الذي نزل الفرقان ) أي القرآن سمي فرقانا لأنه يفرق بين الحق والباطل ( على عبده ) يعني محمداً r وهذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إليه إضافة تشريف وتكريم في مقام إنزال القرآن عليه ( ليكون للعالمين ) الإنس والجن وهذا من خصوصياته r (نذيرا) أي منذر – مأخوذ من الإنذار وهو الإعلام بأسباب المخافة و قوله : ( ليكون ) تعليل لإنزال الفرقان عليه أي ليخصه بالرسالة العامة ثم وصف نفسه سبحانه بأربع صفات الأولى : قوله ( الذي له ملك السموات والأرض ) دون غيره فهو المتصرف فيهما وحده . الصفة الثانية : ( ولم يتخذ ولدا ) كما تزعم النصارى واليهود وذلك لكمال غناه وحاجة كل مخلوق إليه . الصفة الثالثة : ( ولم يكن له شريك في الملك ) فيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية وغيرهم . الصفة الرابعة : ( وخلق كل شئ ) من المخلوقات . ويدخل في ذلك أفعال العباد فهي خلق الله وفعل العبد ( فقدره تقديرا) أي قدر كل شئ مما خلق من الآجال والأرزاق والسعادة والشقاوة وهيأ كل شئ لما يصلح له . قال ابن كثير : نزه نفسه عن الولد وعن الشريك ثم أخبر أنه خلق كل شيء فقدره تقديرا – أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره انتهى. قوله ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) في هذه الآية ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة و( من ) في الموضعين لتأكيد النفي ( إذا لذهب كل إله بما خلق ) هذا استدلال لما سبق في أول الآية من نفي الولد والشريك في الألوهية – أي لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم عن الآخر بما خلق وحينئذ لا ينتظم الكون لوجود الانقسام . والواقع المشاهد أن الكون منتظم أتم انتظام لم يحصل فيه تعدد ولا انقسام ( ولعلا بعضهم على بعض ) أي لو كان معه إله آخر لكان كل منهم يطلب قهر الآخر ومخالفته فيعلو بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا وحينئذ فذلك المغلوب الضعيف لا يستحق أن يكون إلهاً . وإذا تقرر بطلان المشارك تعين أن يكون الإله واحدا هو الله وحده ولهذا قال : ( سبحان الله عما يصفون ) من الشريك والولد ( عالم الغيب والشهادة ) أي هو المختص بعلم ما غاب عن العباد وعلم ما يشاهدونه – وأما غيره فهو وإن علم شيئا من المشاهد فانه لا يعلم الغيب ( فتعالى ) أي تنزه الله وتقدس ( عما يشركون ) به فهو سبحانه متعال عن أن يكون له شريك في الملك .
قوله ( فلا تضربوا لله الأمثال ) ينهى سبحانه عن ضرب الأمثال له . وضرب المثل هو تشبيه حال بحال – وكان المشركون يقولون إن الله أجل من أن يعبده الواحد منا فلابد من اتخاذ واسطة بيننا وبينه فكانوا يتوسلون إليه بالأصنام وغيرها تشبيها له بملوك الدنيا فنهى سبحانه عن ذلك لأنه سبحانه لا مثل له فلا يمثل بخلقه ولا يشبه بهم ( إن الله يعلم ) أنه لا مثل له
( وأنتم لا تعلمون ) ففعلكم هذا صدر عن توهم فاسد وخاطر باطل . ولا تعلمون أيضا ما في عبادة الأصنام من سوء العاقبة وقوله : ( قل ) الخطاب للنبي r وفي ذلك دليل على القرآن كلام الله وأن النبي r مبلغ عن الله.( إنما ) أداة حصر ( حرم ربي الفواحش ) أي جعلها حراما والفواحش جمع فاحشة وهي ما تناهي قبحه من المعاصي ( ما ظهر منها وما بطن) أي ما أعلن منها وما أسر ( والإثم ) كل معصية يتسبب عنها الإثم وقيل هو الخمر خاصة ( والبغي بغير الحق ) أي الظلم المجاوز للحد والتعدي على الناس ( وإن تشركوا بالله ) أي تجعلوا له شريكاً في العبادة .( ما لم ينزل به سلطاناً ) أي حجة وبرهانا . وهذا موضع الشاهد من الآية
( وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ) من الافتراء والكذب ممن دعوى أن له ولدا ونحو ذلك مما لا علم لكم به ومثل كما كانوا ينسبون إليه من التحليلات والتحريمات التي لم يأذن بها .
الشاهد من هذه الآيات الكريمة : أن فيها نفى الشريك عن الله تعالى واثبات تفرده بالكمال ونفى والولد والمثل عنه سبحانه وأن جميع مخلوقاته تنزهه عن ذلك وتقدسه – كما أن فيها إقامة الحجة على بطلان الشرك وأنه مبنى على جهل وخيال . وأنه سبحانه لامثل له ولا شبيه له . والله أعلم .
18- إثبات استواء الله على عرشه
وقوله : ( الرحمن على العرش استوي ) في سبعة مواضع – في سورة الأعراف قوله ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش (78) وقال في سورة يونس عليه السلام ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش ) (79) وقال في سورة الرعد ( الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوي على العرش )(80) وقال في سورة طه ( الرحمن على العرش استوي ) (81) وقال في سورة الفرقان ( ثم استوي على العرش الرحمن ) (82) وقال في سورة الم السجدة ( الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوي على العرش )(83) وقال في سورة الحديد ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش ) (84) 

 
 
الشرح :
أي قد ورد إثبات استواء الله على عرشه في سبع آيات من كتاب الله كلها قد ورد فيها إثبات الاستواء بلفظ واحد هو ( استوي على العرش ) فهو نص في معناه الحقيقي لا يحتمل التأويل بمعنى آخر – والاستواء صفة فعلية ثابتة لله سبحانه على ما يليق بجلالة كسائر صفاته – وله في لغة العرب أربعة معان هي : علا . وارتفع . وصعد. واستقر – وهذه المعاني الأربعة تدور عليها تفاسير السلف للاستواء الوارد في هذه الآيات الكريمة فقوله في الآية الأولى والثانية ( إن ربكم الله ) أي هو خالقكم ومربيكم بنعمه والذي يجب عليكم أن تعبدوه وحده ( الذي خلق السموات والأرض ) أي هو خالق العالم . سمواته وأرضه وما بين ذلك (في ستة أيام ) هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة – ففي يوم الجمعة اجتمع الخلق كله وفيه خلق آدم عليه السلام ( ثم استوي على العرش ) أي علا وارتفع على العرش كما يليق بجلاله – وهذا محل الشاهد من الآية – والعرش في اللغة هو سرير الملك – والمراد به هنا كما يدل عليه مجموع النصوص سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات . وقوله في الآية الثالثة ( الله الذي رفع السموات ) أي رفعها عن الأرض رفعا بعيدا لا ينال ولا يدرك مداه ( بغير عمد ترونها ) العمد هي الأساطين جمع عماد – أي قائمة بغير عمد تعتمد عليها بل بقدرته سبحانه. وقوله ( ترونها) تأكيد لنفي العمد – وقيل لها عمد ولكن لا نراها – والأول أصح ( ثم استوي على العرش ) هذا محل الشاهد من الآية الكريمة لإثبات الاستواء. والكلام على بقية الآيات كالكلام على هذة الآية .
ويستفاد منها جميعاً : إثبات استواء الله . على عرشه على ما يليق بجلاله وفيها الرد على من أوَّل الاستواء بأنه الاستيلاء والقهر وفسر العرش بأنه الملك – فقال استوي على العرش معناه استولى على الملك وقهر غيره وهذا باطل من وجوه كثيرة منها :
أولا: أن هذا تفسير محدث مخالف لتفسير السلف من الصحابة والتابعين واتباعهم وأول من قال به الجهمية والمعتزلة . فهو مردود .
ثانياً: لو كان المراد بالاستواء على العرش الاستيلاء على الملك لم يكن هناك فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى والدواب وجميع المخلوقات لأنه مستول على الجميع ومالك للجميع . فلا يكون لذكر العرش فائدة .
ثالثاً: أن هذا اللفظ ( استوي على العرش ) قد اطرد في الكتاب والسنة ولم يأت في لفظ واحد
( استوي على العرش ) حتى تفسر به بقية النصوص
رابعاً: أنه أتى بـ(ثم ) التي تفيد الترتيب والمهلة فلو كان معنى الاستواء الاستيلاء على العرش والقدرة عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض فان العرش كان موجودا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت في الصحيحين فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول عليه إلى أن خلق السموات والأرض . هذا من أبطل الباطل والله اعلم .
19 – إثبات علو الله على مخلوقاته
وقوله : ( يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى )(85) ( بل رفعه الله إليه )(86) ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه )(87) ( يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً )(88) ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير)(89)

 
الشرح :
(يا عيسى ) خطاب من الله تبارك وتعالى لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ( إني متوفيك ) الذي عليه الأكثر أن المراد بالوفاة هنا النوم كما قال تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل )الآية (60) من سورة الأنعام وقال تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها )الآية ( 42) من سورة الزمر ( ورافعك إلى ) أي رفعه الله إليه في السماء وهو حي – وهذا محل الشاهد من الآية وهو إثبات العلو لله لأن الرفع يكون إلى أعلى .
وقوله : ( بل رفعه الله إليه ) هذا رد على اليهود الذين يدعون أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم فقال تعالى : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)- إلى قوله: ( وما قتلوه يقينا) الآية (157) من سورة النساء
( بل رفعه الله إليه ) أي رفع الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام إليه وهو حي لم يقتل – وهذا محل الشاهد لأن فيه إثبات علو الله على خلقه لأن الرفع يكون إلى أعلى . وقوله ( إليه يصعد ) أي إلى الله سبحانه لا إلى غيره يرتفع ( الكلم الطيب ) أي الذكر والتلاوة والدعاء ( والعمل الصالح يرفعه ) أي العمل الصالح يرفع الكلم الطيب – فإن الكلم الطيب لا يقبل إلا مع العمل الصالح فمن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه – قال إياس بن معاوية لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام . وقال الحسن وقتادة لا يقبل قول إلا بعمل . والشاهد من الآية: أن فيها إثبات علو الله على خلقه لأن الصعود والرفع يكونان إلى أعلى. وقوله تعالى :
( يا همان ابن لي صرحاً ) هذا من مقولة فرعون لوزيره هامان يأمره ان يبني له قصراً منيفاً عالياً ( لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات ) أي طرق السموات أو أبوابها ( فأطلع إلى إله موسى ) بنصب (فأطلع ) بأن مضمرة بعد فاء السببية – ومعنى مقالته هذه تكذيب موسى عليه السلام في أن الله أرسله أو أن له إلها في السماء ولذلك قال  : ( وإني لأظنه كاذبا ) أي فيما يدعيه من الرسالة أو فيما يدعيه بأن له إلها في السماء والشاهد من الآية : أن فيها إثبات علو الله على خلقه . حيث أن موسى عليه السلام أخبر بذلك وحاول فرعون في تكذيبه – وقوله تعالى : ( أأمنتم ) الأمن ضد الخوف ( من في السماء ) أي عقوبة من في السماء وهو الله سبحانه – ومعنى ( في السماء ) أي على السماء – كقوله تعالى : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) وهذا إن أريد بالسماء السماء المبنية – وإن أريد بالسماء مطلق العلو ففي للظريفة – أي في العلو ( أن يخسف بكم الأرض ) أي يقلعها بكم كما فعل بقارون ( فإذا هي تمور ) أي تضطرب وتتحرك ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ) أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل . وقيل سحاب فيها حجارة وقيل ريح فيها حجارة ( فتستعلمون كيف نذير ) أي إنذاري إذا عاينتم العذاب ولا ينفعكم حينذاك هذا العلم .
والشاهد من الآيتين : أن فيهما إثبات علو الله على خلقه حيث صرحتا أنه سبحانه في السماء فقد دلت هذه الآيات التي ذكرها المؤلف رحمة الله عليه على إثبات العلو . كما دلت هذه الآيات التي قبلها على إثبات استواء الله على العرش – والفرق بين الاستواء والعلو :
1- أن العلو من صفات الذات والاستواء من صفات الأفعال فعلو الله على خلقه وصف لازم لذاته – والاستواء فعل من أفعاله سبحانه يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته إذا شاء ولذا قال فيه ( ثم استوي ) وكان ذلك بعد خلق السموات والأرض .
2- أن العلو من الصفات الثابتة بالعقل والنقل . والاستواء ثابت بالنقل لا بالعقل .  
20- إثبات معينة الله لخلقه
وقوله : ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير )(90) ( وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم )(91) وقوله : ( لا تحزن إن الله معنا )(92) ( إنني معكما أسمع وأرى )(93) ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )(94) ( واصبروا إن الله مع الصابرين )(95) ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )(96).

 
الشرح :
قوله تعالى ( هو الذي خلق السموات – إلى قوله – وما يعرج فيها ) تقدم تفسيره(97) وقوله : ( وهو معكم أينما كنتم ) أي هو معكم بعلمه رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم في بر أو بحر في ليل أو نهار في البيوت أو القفار الجميع في علمه على السواء وتحت سمعه وبصره . يسمع كلامكم ويرى مكانكم – وهذا محل الشاهد من الآية الكريمة ففيه إثبات المعية العامة ( والله بما تعلمون بصير ) لا يخفى عليه شئ من أعمالكم – وقوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة ) النجوى السر والمعنى ما يوجد من تناجي ثلاثة
( إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) أي جاعلهم أربعة وجاعلهم ستة من حيث إنه سبحانه يشاركهم في الإطلاع على تلك النجوى وتخصيص هذين العددين بالذكر لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة – أو أن سبب النزول تناجي ثلاثة في واقعة وخمسة في واقعة أخرى , وإلا فهو سبحانه مع كل عدد قل أو كثر ولهذا قال تعالى ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم ) أي ولا أقل من العدد المذكور كالواحد والاثنين ولا أكثر منه كالستة والسبعة ( إلا هو معهم ) بعلمه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه شئ منه – قال المفسرون :إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك فلما طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله r فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله هذه الآيات – وقوله تعالى :(أينما كانوا ) معناه إحاطة علمه سبحانه بكل تناج يقع منهم في أي مكان ( ثم ينبئهم ) أي يخبرهم سبحانه ( بما عملوا يوم القيامة ) ويجازيهم على ذلك وفي هذا تهديد لهم وتوبيخ ( إن الله بكل شئ عليم ) لا يخفى عليه شئ – والشاهد من الآيه أن فيها إثبات معية الله لخلقه وهي معية عامة مقتضاها الإحاطة والعلم بجميع أعمالهم ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم – وقوله تعالى ( لا تحزن إن الله معنا ) هذا خطاب من النبي r لصاحبه أبي بكر t عنه حينما كانا في الغار وقت الهجرة وقد لحق بهما المشركون فحزن أبو بكر t خوفاً على النبي r  من أذى الكفار فقال له النبي r ( لا تحزن ) أي دع الحزن ( إن الله معنا ) بنصره وعونه وتأييده . ومن كان الله معه فلن يغلب . ومن لا يغلب لا يحق له أن يحزن. والشاهد من الآية : أن فيها إثبات المعية الخاصة بالمؤمنين التي مقتضاها النصر والتأييد .... وقوله تعالى لموسى وهرون عليهما السلام : (إنني معكما أسمع وأرى ) أي لا تخافا من فرعون ( إنني معكما ) تعليل للنهي – أي معكما بالنصر لكما والمعونة على فرعون ( أسمع ) كلامكما وكلامه ( وأرى ) مكانكما ومكانه لا يخفى علي من أمركم شئ – والشاهد من الآية : أن فيها إثبات المعية الخاصة في حق الله تعالى لأوليائه بالنصر والتأييد – كما أن فيها إثبات السمع والبصر له سبحانه وتعالى وقوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا ) أي تركوا المحرمات والمعاصي على اختلاف أنواعها ( والذين هم محسنون ) بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا به فهو سبحانه مع هؤلاء بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة وهي محل الشاهد من الآية الكريمة . وقوله : ( واصبروا ) هذا أمر الصبر وهو حبس النفس – والمراد به هنا الصبر على شدائد الحرب التي بين المسلمين وبين الكفار ثم علل هذا الأمر بقوله ( إن الله مع الصابرين ) فهو سبحانه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات معية الله للصابرين على طاعته والمجاهدين في سبيله قال الإمام الشوكاني : ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات وإن كانت كثيرة أهـ وقوله تعالى : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) الفئة : الجماعة والقطعة منهم ( بإذن الله) أي بإرادته وقضائه ومشيئته ( والله مع الصابرين ) هذا محل الشاهد من الآية الكريمة وهو إثبات معية الله سبحانه للصابرين على الجهاد في سبيله وهي معية خاصة مقتضاها النصر والتأييد .
ما يستفاد من مجموع الآيات السابقة : أفادت إثبات المعية – وأنها نوعان :ـ
النوع الأول : معية عامة كما في الآيتين الأوليين – ومقتضى هذه المعية إحاطته سبحانه بخلقه وعلمه بأعمالهم خيرها وشرها ومجازاتهم عليها .
النوع الثاني : معية خاصة بعبادة المؤمنين ومقتضاها النصر والتأييد والحفظ – وهذا النوع تدل عليه الآيات الخمس الباقية التي أوردها المؤلف رحمه الله ومعيته سبحانه لا تنافي علوه على خلقه واستوائه على عرشه . فإن قربه سبحانه ومعيته ليست كقرب المخلوق ومعية المخلوق للمخلوق – فإنه سبحانه ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) ولأن المعية مطلق المقارنة لا تقتضي مماسة ولا محاذاة – تقول العرب : مازلنا نمشي والقمر معنا مع أنه فوقهم والمسافة بينهم وبينه بعيدة – فعلو الله جل جلاله ومعيته لخلقه لا تنافي بينهما . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله .
21- إثبات الكلام لله تعالى
وقوله : ( ومن أصدق من الله حديثا ) (97) ( ومن أصدق من الله قيلا ) (98) ( وإذا قال الله يا عيسى بن مريم )(99) (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا )(100) ( وكلم الله موسى تكليما )(101) ( منهم من كلم الله )(102) ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمة ربه )( 103) ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ) (104) ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين )(105) ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة )(106)( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين )(107)( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله )(108)( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )(109)(يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل )(110)
( واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته )(111)( إن هذا القرآن يقص علي بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون )(112)

 
الشرح
قوله تعالى ( ومن أصدق من الله ) أي لا أحد أصدق منه سبحانه فهو استفهام إنكاري ( حديثا ) أي في حديثه وخبره وأمره ووعده ووعيده وقوله . ( ومن أصدق من الله قيلا ) القيل مصدر قال كالقول – أي لا أحد أصدق قولا من الله عز وجل – والشاهد من الآيتين الكريمتين إن فيهما إثبات الحديث والقيل لله سبحانه ففيهما إثبات الكلام له سبحانه وقوله تعالى ) ( وإذا قال الله يا عيسى بن مريم ) أي اذكر ( إذ قال الله ) جمهور المفسرين ذهب إلى أن هذا القول منه سبحانه يكون يوم القيامة – وهو توبيخ للذين عبدوا المسيح وأمه من النصارى . وهي كالآيتين السابقتين فيها إثبات القول لله تعالى وأنه يقول إذا شاء وقوله : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) المراد بالكلمة كلامه سبحانه . وقوله : ( صدقا ) أي في أخباره سبحانه ( وعدلا) أي في أحكامه ( وصدقا وعدلا) منصوبان على التمييز ، وفي الآية إثبات الكلام لله تعالى . وقوله : ( وكلم الله موسى تكليما ) هذا تشريف لموسى عليه السلام بأن الله كلمه أي أسمعه كلامه ولهذا يقال له الكليم و ( تكليما ) مصدر مؤكد لدفع كون التكليم مجازاً . ففي الآية إثبات الكلام لله وأنه كلم موسى عليه السلام . وقوله تعالى : ( ومنهم من كلم الله ) أي من الرسل عليهم الصلاة السلام ( من كلم الله ) بلا واسطة يعني موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذا أدم كما ورد به الحديث في صحيح ابن حبان ففي الآية إثبات الكلام لله تعالى وأنه كلم بعض الرسل . وقوله تعالى :( ولما جاء موسى لميقاتنا ) أي حصل مجيئه في الوقت الذي واعده الله فيه( وكلمه ربه ) أي أسمعه كلامه من غير واسطة – فالآيات فيها إثبات الكلام لله وإنه يتكلم متى شاء سبحانه وأنه كلم موسى عليه السلام بلا واسطة – وقوله تعالى : ( وناديناه ) أي نادى الله تعالى موسى عليه السلام – والنداء هو الصوت المرتفع ( من جانب الطور ) الطور : جبل بين مصر ومدين ( الأيمن ) أي جانب الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من النار التي رآها جذوة وليس المراد أيمن الجبل نفسه فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال . ( وقربناه ) آي أدنيناه حتى كلمناه ( نجيا ) أي مناجيا – والمناجاة ضد المناداة – وفي الآية الكريمة إثبات الكلام لله تعالى وأنه ينادي ويناجي وهما نوعان من الكلام – فالمناداة بصوت مرتفع والمناجاة بصوت غير مرتفع .
وقوله : ( وإذا نادى ربك موسى ) أي واتل أو أذكر ذلك ( إذ نادى ربك موسى ) والنداء هو الدعاء ( أن ائت ) : ( أن) يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية أي أذهب إلى ( القوم الظالمين ) وصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعبادهم بني إسرائيل وذبح أبنائهم ، وفي الآية الكريمة : إثبات الكلام لله تعالى وأنه ينادي من شاء من عباده ويسمعه كلامه . وقوله ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) أي نادى الله تعالى آدم وحواء عليهما السلام قائلا لهما ( ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) أي عن الأكل منها – وهذا عتاب من الله لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه . وفي الآية الكريمة – إثبات الكلام لله تعالى والنداء منه لآدم وزوجه . وقوله تعالى :
 ( ويوم يناديهم ) أي ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين يوم القيامة ( فيقول ) لهم
( ماذا أجبتم المرسلين ) أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبين لما بلغوكم رسالاتي والشاهد من الآية : إثبات الكلام لله – وأنه ينادي يوم القيامة وقوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين ) الذين أمرت بقتالهم ( استجارك ) يا محمد أي طلب جوارك وحمايتك وأمانك ( فأجره ) أي كن له جارا ومؤمنا ( حتى يسمع كلام الله ) منك ويتدبره ويقف على حقيقة ما تدعو إليه .
والشاهد من الآية : أن فيها إثبات الكلام لله تعالى . وأن الذي يتلى هو كلام الله وقوله : ( وقد كان فريق منهم ) أي اليهود والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه ( يسمعون كلام الله ) أي التوراة ( ثم يحرفونه ) أي يتأولونه على غير تأويله ( من بعد ما عقلوه ) أي فهموه ومع هذا يخالفونه على بصيرة ( وهم يعلمون ) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله – والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الكلام لله تعالى ، وأن التوراة من كلامه تعالى . وأن اليهود حرفوها وغيروا فيها وبدلوا .
وقوله تعالى : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) ( يريدون ) أي المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله - r- حين خرج عام الحديبية ( أن يبدلوا كلام الله ) أي يغيروا كلام الله الذي وعد الله به أهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر ( قل لن تتبعونا ) هذا نفي في معنى النهي أي لا تتبعونا ( كذلكم قال الله من قبل ) أي وعد الله أهل الحديبية أن غنيمة خيبر لهم خاصة .
والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الكلام لله وإثبات القول له وإن الله سبحانه يتكلم ويقول متى شاء وأنه لا يجوز تبديل كلامه سبحانه بل يجب العمل به وإتباعه وقوله ( واتل ما أوحى إليك ) أمر الله نبيه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحي إليه والوحي هو الإعلام بسرعة وخفاء وله كيفيات مذكورة في كتب أصول التفسير ( من كتاب ربك ) بيان للذي أوحى إليه ( لا مبدل لكلماته ) أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل – والشاهد من الآية : إثبات الكلمات لله تعالى . قوله : ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ) وهم حملة التوراة والإنجيل ( أكثر الذي هم فيه يختلفون ) كاختلافهم في عيسى فاليهود افتروا في حقه والنصارى غلوا فيه . فجاء القرآن بالقول الوسط الحق أنه عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات أن القرآن كلام الله تعالى لما تضمنه من الإحاطة بالكتب السابقة والحكم في الخلاف بين طوائف أهل الكتاب بالقسط وهذا لا يكون إلا من عند الله .
ويستفاد من مجموع الآيات التي ساقها المؤلف إثبات الكلام لله ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله موصوف بالكلام وكلامه سبحانه من صفاته الذاتية لقيامه به واتصافه به . ومن صفاته الفعلية الواقعة بمشيئته وقدرته فيتكلم إذا شاء كيف شاء بما يشاء ولم يزل متكلما ولا يزال متكلما لأنه لم يزل ولا يزال كاملا والكلام من صفات الكمال . ولأن الله وصف به نفسه ووصفه به رسوله . وسيأتي ذكر مذهب المخالفين في هذه المسألة مع الرد عليهم إن شاء الله . 

22- إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى
وقوله : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك) (113) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله )(114) ( وإذا بدلنا آية مكان أية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين )(115)

 
الشــــرح :
لما أورد المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على إثبات الكلام لله تعالى وأن القرآن العظيم من كلامه سبحانه شرع في سياق الآيات الدالة على أن القرآن منزل من عند الله فقوله تعالى : ( وهذا ) الإشارة إلى القرآن الكريم واسم الإشارة مبتدأ خبرة ( كتاب ) و ( أنزلناه مبارك ) صفتان لكتاب وقدم صفة الإنزال لأن الكفار ينكرونها – والمبارك كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية – وقوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله ) هذا إخبار عن عظمة القرآن وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب – فإنه لو أنزل على جبل مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع مع خوف الله حذرا مع عقابه فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع . وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه – وقوله تعالى : ( وإذا بدلنا أية مكان أية ) هذا شروع منه سبحانه في ذكر شبة كفرية حول مكانه وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهو نسخها بأية سواها ( قالوا ) أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ ( إنما أنت ) يا محمد ( مفتر ) أي كاذب مختلق متقول على الله حيث تزعم أنه أمرك بشئ ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله عليهم بما يفيد جهلهم فقال ( بل أكثرهم لا يعلمون ) شيئا من العلم أصلاً أولا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه فقد يكون في شرع هذا الشئ مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره . ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعملوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف . ثم رد عليهم في زعمهم أن هذا التبديل من عند محمد وأنه بذلك مفتر على الله – فقال سبحانه : ( قل نزله ) أي القرآن ( روح القدس ) أي جبريل والقدس الطهر – والمعنى : نزله الروح المطهر – فهو من إضافة الموصوف إلى صفته ( من ربك ) أي ابتداء تنزيله من عند الله سبحانه ( بالحق ) في محل نصب على الحال – أي متصفاً بكونه حقاً . ( ليثبت الذين آمنوا ) على الإيمان فيقولون : كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا . ولأنهم إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتوا على الإيمان ( وهدى وبشرى للمسلمين ) معطوفان على محل ليثبت – ( أي تثبيتاً لهم وهداية وبشرى ) .
ثم ذكر سبحانه شبهة آخري من شبههم فقال : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ) أي ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمدا القرآن بشر من بني آدم وليس ملكا من الملائكة – وهذا البشر الذي يعلمه كان قد درس التوراة والإنجيل والكتب الأعجمية – لأن محمداً رجل أمي لا يمكن أن يأتي بما ذكر في القرآن من أخبار القرون الأولى .
فرد الله عليهم بقوله : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ) أي لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك يا محمد أعجمي – أي غير عربي – فهو لا يتكلم العربية ( وهذا لسان عربي مبين ) أي وهذا القرآن ذو بلاغة عربية وبيان واضح فكيف تزعمون أن بشراً يعلمه النبي - r - من العجم وقد عجزتم أنتم عن معارضته أو معارضة سورة أو سور منه وأنتم أهل اللسان العربي ورجال الفصاحة وقادة البلاغة .
ما يستفاد من الآيات : يستفاد من هذه الآيات الكريمة إثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه كلامه جل وعلا لا كلام غيره من الملائكة أو البشر – والرد على من زعم أنه كلام مخلوق – وفي الآيات أيضاً إثبات العلو لله سبحانه – لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى . والله أعلم .
23- إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقوله : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )(116)(على الأرائك ينظرون )(117)( وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة )(118)( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد )(119) وهذا الباب في كتاب الله كثير . ومن تدبر القرآن طالبا للهدى تبين له طريق الحق . 

 
الشــرح :
قوله تعالى : ( وجوه ) أي وجوه المؤمنين ( يومئذ) أي يوم القيامة ( ناضرة ) بالضاد من النضارة وهي البهاء والحسن . أي ناعمة غضة حسنة مضيئة مشرقة ( إلى ربها ) أي خالقها ( ناظرة ) أي تنظر إليه بأبصارها كما تواترت به الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه الصحابة التابعون وسلف الأمة واتفق عليه أئمة الإسلام – فالشاهد من ا لآية الكريمة : إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة – وقوله : ( على الأرائك ) جمع أريكة وهي السرر ( ينظرون ) إلى الله عز وجل – وأما الكفار فقد تقدم في الآيات التي قبل هذه الآية أنهم ( عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) والشاهد من الآية إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل . وقوله تعالى : ( للذين أحسنوا ) بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال والكف عما نهاهم عنه من المعاصي ( الحسنى ) أي المثوبة الحسنى . وقيل الجنة – ( وزيادة ) هي النظر إلى وجه الله الكريم كما ثبت تفسيرها بذلك عن رسول الله - r- في صحيح مسلم وغيره وكما فسرها بذلك سلف هذه الأمة وعلى ذلك يكون الشاهد من الآية الكريمة : إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ، وقوله تعالى : ( لهم ما يشاءون فيها ) أي للمؤمنين في الجنة ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم من فنون النعيم وأنواع الخير ( ولدينا مزيد ) أي زيادة على ذلك وهو النظر إلى وجه الله الكريم – وهذا هو الشاهد من الآية الكريمة وهو إثبات إلى وجه الله الكريم في الجنة .
ما يستفاد من الآيات الكريمة – يستفاد منها إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة – وأنها أعظم النعيم الذي ينالونه . وهذا هو قول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين – خلافا للرافضة الجهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية ويخالفون بذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الآمة وأئمتها . ويعتمدون على شبه واهية وتعليلات باطلة منها :
1) قولهم إن إثبات يلزم منه إثبات أن الله في جهة ولو كان في جهة لكان جسما – والله منزه عن ذلك – والجواب عن هذه الشبهة أن نقول لفظ الجهة فيه إجمال . فإن أريد بالجهة أنه حال في شئ من مخلوقاته فهذا باطل والأدلة ترده وهذا لا يلزم من إثبات الرؤية – وإن أريد بالجهة أنه سبحانه فوق مخلوقاته فهذا ثابت لله سبحانه ونفيه باطل وهو لا يتنافى مع رؤيته سبحانه .
2) استدلوا بقوله تعالى لموسى : ( لن تراني ) والجواب عن هذا الاستدلال أن الآية الكريمة واردة في نفي الرؤية في الدنيا ولا تنفي ثبوتها في الآخرة كما ثبت في الأدلة الأخرى . وحالة الناس في الآخرة تختلف عن حالتهم في الدنيا .
3) استدلوا بقوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) والجواب عن هذا الاستدلال أن الآية إنما فيها نفي الإدراك وليس فيها الرؤية . والإدراك معناه الإحاطة فالله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون ولا يحيطون به – بل نفى الإدراك يلزم منه وجود الرؤية فالآية من أدلة إثبات الرؤية والله تعالى أعلم .
وقول المؤلف رحمه الله : ( وهذا الباب في كتاب الله كثير ) أي باب إثبات أسماء الله وصفاته في القرآن كثير وإنما ذكر المؤلف بعضه – فقد ورد في آيات كثيرة من كتاب الله إثبات أسماء الله وصفاته على ما يليق به ( ومن تدبر القرآن ) أي تفكر فيه وتأمل ما يدل عليه من الهدى ( تبين له طريق الحق ) أي اتضح له سبيل الصواب وتدبر القرآن هو المطلوب من تلاوته قال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب )(120) وقال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )(121) وقال تعالى ( أفلم يدبروا القول ) (122) .
الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من السنة
فصل
ثم في سنة رسول الله - r- فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .

 
الشــــرح :
قوله : ( ثم في سنة رسول الله - r - ) هذا عطف على قوله فيما سبق : ( وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص ..... الخ ) أي ودخل فيها ما وصف به الرسول - r - فيما وردت به السنة الصحيحة . لأن السنة هي الأصل الثاني الذي يجب الرجوع إليه بعد كتاب الله عز وجل قال الله تعالى : ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) الآية (59) من سورة النساء – والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه والرد إلى رسول الله - r- بعد وفاته هو الرجوع إلى سنته والسنة لغة : الطريقة: واصطلاحاً : هي ما ورد عن رسول الله -r- من قول أو فعل أو تقرير . 
مكــــــانه الســــنة
قال : ( فالسنة تفسير القرآن ) أي تبين معانيه ومقاصده – فإن النبي -r- يبين للناس ما أنزل إليه قال الله تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )(الآية (44) من سورة النحل .
والسنة أيضا ( تبين القرآن ) أي توضح مجملة كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغالب الأحكام التي تأتي مجملة في القرآن وتبينها السنة النبوية .
والسنة أيضا : ( تدل على القرآن وتعبر عنه ) أي تدل على ما دل عليه القرآن وتعبر عما عبر عنه القرآن – فتكون موافقة للقرآن فيكون الحكم مما دل عليه الكتاب والسنة كأسماء الله وصفاته .
وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول الإيمان بها كذلك .

 
الشـــرح :
قوله : ( وما وصف الخ ) مبتدأ خبره قوله : ( وجب الإيمان بها كذلك ) أي كما يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه في القرآن الكريم . لأن النبي - r - كما وصفه ربه عز وجل بقوله ( وما ينطلق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) (123) فالسنة التي نطق بها رسول - r- وحي من الله كما قال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة )(124) فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة . فيجب الإيمان بما ورد في السنة لاسيما في باب الاعتقاد قال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )(125) لكن لا بد في قبول الحديث والإيمان به من ثبوته عن النبي -r- ولهذا قال الشيخ رحمه الله : ( من الأحاديث الصحاح ) والصحاح جمع صحيح – والحديث الصحيح هو ما نقله راو عدل تام الضبط عن مثله من غير شذوذ ولا علة – فهو ما اجتمع فيه خمسة شروط .
1) عدالة الرواة .
2) ضبطهم .
3) اتصال السند .
4) سلامته من العلة .
5) سلامته من الشذوذ .
وقوله ( تلقاها أهل المعرفة ) أي قبلها وأخذ بها أهل العلم بالحديث فلا عبرة بغيرهم ثم ذكر الشيخ أمثلة مما ورد في السنة من صفات الله عز وجل فقال :
1-ثبوت النزول الإلهي إلى سماء الدنيا على ما يليق بجلال الله
   فمن ذلك مثل قوله -r- : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له . من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ) متفق عليه

 
الشــــرح :
قوله : ( ينزل ربنا ) أي نزولا يليق بجلاله نؤمن به ولا نشبهه بنزول المخلوق لأنه سبحانه ( ليس كمثله شئ ) ( إلى سماء الدنيا ) أي السماء الدنيا من إضافة الموصوف إلى صفته ( حين يبقى ثلث الليل الآخر ) برفع الآخر صفة لثلث وفي هذا تعيين لوقت النزول الإلهي قوله : ( فأستجيب له ) بالنصب على جواب الاستفهام وكذا قوله : ( فأعطيه ) و ( أغفر له ) وقوله : ( فأستجيب له ) أي أجيب دعوته والشاهد من الحديث : أن فيه ثبوت النزول الإلهي – وهو من صفات الأفعال وفي الحديث أيضاً إثبات العلو لله تعالى . فإن النزول يكون من العلو وفيه الرد على من أول الحديث بأن معناه نزول رحمته أو أمره . لأن الأصل الحقيقة وعدم الحذف . ولأنه قال ( من يدعوني فأستجيب له فهل يعقل أن تقول رحمته أو أمره هذا المقال . وفي الحديث إثبات الكلام لله تعالى حيث جاء فيه ( فيقول الخ ) وفيه إثبات الإعطاء والإجابة والمغفرة لله سبحانه وهي صفات أفعال وقوله : ( متفق عليه ) أي بين البخاري ومسلم .
2- إثبات أن الله يفرح ويضحك
وقوله -r- : ( لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته ) الحديث متفق عليه وقوله - r- : ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ) متفق عليه 

 
الشـــرح :
(لله) اللام لام الابتداء ( أشد فرحا ) منصوب على التمييز والفرح في اللغة السرور ولذة القلب ( بتوبة عبده ) التوبة هي الإقلاع عن الذنب والرجوع إلى الطاعة ( براحلته ) الراحلة الناقة التي تصلح أن ترحل ( الحديث ) منصوب بفعل مقدر أي أقرأ بقية الحديث لأن المصنف اقتصر على الشاهد منه – وهو إثبات الفرح لله سبحانه على ما يليق بجلاله وهو صفة كمال لا يشبهه فرح أحد من خلقه بل هو كسائر صفاته . وهو فرح إحسان وبر ولطف لا فرح محتاج إلى توبة عبده ينتفع بها فإنه سبحانه لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي .
وقوله -r- : ( يضحك الله إلى رجلين – الخ ) قد بين النبي - r- في آخر الحديث سبب ذلك في قوله : ( يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد ) وهذا من كمال إحسان الله سبحانه وسعة رحمته فإن المسلم يقاتل في سبيل الله فيقتله الكافر فيكرم الله المسلم بالشهادة ثم يمن الله على ذلك الكافر القاتل فيهديه للإسلام فيدخلان الجنة جميعا – فهذا أمر عجيب والضحك يكون من الأمور المعجبة التي تخرج عن نظائرها – والشاهد من الحديث : إثبات الضحك لله سبحانه وهو صفة من صفاته الفعلية التي نثبتها له على ما يليق بجلاله وعظمته ليس كضحك المخلوق . 
3- إثبات أن الله يعجب ويضحك
وقوله : ( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ) حديث حسن (126)

 
 
الشــرح :
( عجب ربنا ) قال في المصباح : التعجب يستعمل على وجهين أحدهما ما يحمده الفاعل ومعناه الاستحسان والإخبار عن رضاه به والثاني ما يكرهه ومعناه الإنكار والذم له ( من قنوط عباده ) القنوط شدة اليأس من الشئ – والمراد هنا اليأس من نزول المطر وزوال القحط ( وقرب غيره ) غيره بكسر الغين وفتح الياء أي تغييره الحال من شدة إلى رخاء ( ينظر إليكم أزلين ) الأزل بسكون الزاي الضيق . وقد أزل الرجل بأزل أزلا صار في ضيق وجدب . ( فيظل يضحك ) هذا من صفاته الفعلية التي لا يشبهه فيها شئ من مخلوقاته ففي الحديث إثبات صفتين من صفات الله الفعلية هما العجب والضحك وهما صفتان تليقان بجلاله ليستا كعجب المخلوق وضحك المخلوق وفي الحديث أيضاً إثبات النظر لله سبحانه وهو من صفاته الفعلية أيضاً فإنه ينظر إلى عباده ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء .
4- إثبات الرجل والقدم لله سبحانه
وقوله - r- ( لا تزال جهنم يلقي فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها رجله – وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط ) متفق عليه .

 
 
الشــــرح :
قوله ( لا تزال جهنم ) جهنم اسم من أسماء النار قيل سميت بذلك لعبد قعرها – وقيل لظلمتها – من الجهومة وهي الظلمة ( يلقى فيها ) أي يطرح فيها أهلها ( وهي تقول هل من مزيد) أي تطلب الزيادة لسعتها وقد وعدها الله أن يملأها ( حتى يضع رب العزة فيها رجله ) لما كانت النار في غابة الكبر والسعة وقد وعدها الله ملئها وكان مقتضى رحمته سبحانه أن لا يعذب أحداً بغير جرم حقق وعده ووضع عليها رجله ( فينزوي بعضها إلى بعض ) أي ينضم بعضها إلى بعض ويتلاقى طرفاها ولا يبقى فيها فضل عن أهلها ( فتقول قط قط ) أي حسبي ويكفيني . والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات الرجل والقدم لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه وهو من صفات الذات كالوجه واليد – والله تعالى أعلم . وقد غلط تفسير هذا الحديث المعطلة حيث قالوا : ( قدمه ) نوع من الخلق وقالوا ( رجله ) جماعة من الناس كما يقال رجل جراد – والرد على هذا أن يقال إن النبي - r- قال حتى ( يضع ) ولم يقال حتى يلقي كما قال في أول الحديث ( يلقي فيها ) وأيضاً القدم لا يصح تفسيره بالقوم لا حقيقة ولا مجازاً . 
5- إثبات النداء والصوت والكلام لله تعالى
وقوله : ( يقول الله تعالى يا أدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ) متفق عليه . وقوله( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان ) ( 127)

 
 
الشـــرح :
قوله : ( لبيك وسعديك ) لبيك أي أنا مقيم على طاعتك من ألب بالمكان إذا أقام وهو منصوب على المصدر . وثني للتأكيد وسعديك : من المساعدة وهي المطاوعة أي المساعدة في طاعتك بعد مساعدة . قوله : ( فينادي ) بكسر الدال والمنادي هو الله تعالى ( بصوت ) تأكيد لقوله ( ينادي ) لأن النداء لا يكون إلا بصوت وهذا كقوله تعالى : ( وكلم الله موسى تكليما ) قوله : ( بعثا إلى النار ) البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها – ومعنى ذلك ميز أهل النار من غيرهم.
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات القول من الله والنداء بصوت يسمع وأن ذلك سيحصل يوم القيامة ففيه أن الله يقول وينادي متى شاء وكما يشاء وقوله :
( ما منكم من أحد ) الخطاب للصحابة وهو عام لجميع المؤمنين ( إلا سيكلمه ربه ) أي بلا واسطة ( ليس بينه وبينه ترجمان ) الترجمان من يعبر بلغة عن لغة – أي ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى .
والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات تكليم الله سبحانه لعباده . وأنه سبحانه يتكلم إذا شاء . فكلامه من صفاته الفعلية . وأنه يكلم كل مؤمن يوم القيامة .
  
6- إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه
وقوله في رقية المريض : ( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره .

وقوله ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) حديث صحيح (128) وقوله : ( والعرش فوق ذلك والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره . وقوله للجارية : ( أين الله . قالت في السماء . قال : من أنا قالت : أنت رسول الله . قال : أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم .
 
 
الشرح :
( في رقية المريض ) أي القراءة على المريض طلبا لشفائه وهي مشروعة إذا كانت بالقرآن والأدعية المباحة – وممنوعة إذا كانت بألفاظ شركية أو أعمال شركية ( ربنا الله الذي في السماء ) أي على السماء (129) – ففي هنا – بمعنى على كقوله تعالى : ( فسيحوا في الأرض ) الآية (2 سورة التوبة ) أي على الأرض ويجوز أن تكون – في – للظرفية على بابها ويكون المراد بالسماء مطلق العلو ( تقدس اسمك ) أي تقدست أسماؤك عن كل نقص فهو مفرد مضاف فيعم جميع أسماء الله . ( أمرك في السماء والأرض ) أي أمرك الكوني القدري الذي ينشأ عنه جميع المخلوقات والحوادث ومنه قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ( الآية 82) من سورة يس) وأمرك الشرعي المتضمن للشرائع التي شرعها لعباده .( كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك الأرض ) هذا توسل إليه برحمته التي شملت أهل السموات كلهم أن يجعل لأهل الأرض منها نصيبا ( اغفر لنا حوبنا وخطايانا ) هذا طلب للمغفرة وهي الستر ووقاية الإثم ومنه المغفر الذي يلبس على الرأس لستره ووقايته من الضرب والحوب : الإثم – والخطايا هي الذنوب ( أنت رب الطيبين ) هذا توسل آخر والطيبين جمع طيب وهم النبيون وأتباعهم – وإضافة ربوبيته لهؤلاء إضافة تشريف وتكريم وإلا فهو سبحانه رب كل شئ ومليكه ( أنزل رحمة من رحمتك ) أي الرحمة المخلوقة – فإن رحمة الله نوعان – النوع الأول : رحمته التي هي صفة من صفاته كما في قوله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شئ ) ( الآية 156) من سورة الأعراف ) – النوع الثاني : رحمة تضاف إليه سبحانه من إضافة المخلوق إلى خالقه كالمذكورة في هذا الحديث – وكما في حديث : ( خلق الله مائة رحمة ) الحديث (130) فطلب r من ربه إنزال هذه الرحمة على المريض لحاجته إليها ليشفيه بها – والشاهد من الحديث : ان فيه إثبات العلو لله تعالى أنه في السماء والعلو صفة ذاتية كما سبق – كما أن في الحديث التوسل إلى الله تعالى بالثناء عليه بربوبيته وإلهيته وقدسيته وعلوه وعموم أمره وبرحمته ثم في الحديث طلب المغفرة من الله وشفاء المرض .
وقوله r :( ألا تأمنوني ) هذا خطاب منه r لمن اعترض عليه في بعض قسمته المال – وألا : أداة استفتاح وتنبيه وتأمنوني – من الأمانة – وهي عدم المحاباة والخيانة – أي ألا تأمنوني في قسمة المال – ( وأنا أمين من في السماء ) وهو الله سبحانه قد ائتمنني على وحيه ورسالته وتبليغ شرعه وكفى بذلك شهادة على أمانته وصدقه r - والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات العلو لله سبحانه – حيث قال ( من في السماء ) وسبق شرح الجملة قريبا .
وقوله : ( والعرش فوق ذلك ) تقدم تفسير العرش (131) وقوله ( فوق ذلك ) أي فوق المخلوقات التي بينها الرسول r لأصحابه في الحديث الذي ذكر فيه بعد ما بين السماء والأرض وما بين كل سماء وسماء وكثف على السماء والبحر الذي فوق السماء السابعة وما بين أسفله وأعلاه وما فوق ذلك البحر من الأوعال الثمانية العظيمة ثم فوق ذلك العرش ( والله فوق العرش ) أي مستو عليه استواء يليق بجلاله ( وهو يعلم ما أنتم عليه ) بعلمه المحيط الذي لا يخفى عليه شئ – والشاهد من الحديث : إثبات علو الله على عرشه وأن عرشه فوق المخلوقات كلها وأن علم الله سبحانه محيط بأعمال العباد لا يخفى عليه منها شئ .
( وقوله للجارية ) أي أمة معاوية بن الحكم حينما غضب عليها سيدها معاوية فلطمها ثم ندم وأخبر رسول الله r وقال أفلا أعتقها فقال النبي r : بلى جئني بها فأتى بها رسول الله r فقال لها ( أين الله ) فيه دليل على جواز السؤال عن الله بأين – ( قالت في السماء ) أي الله سبحانه في السماء . وتقدم تفسير هذه الكلمة (132) – ( قال ) لها النبي r أيضاً ( من أنا ) سألها عن اعتقادها فيه ( قالت أنت رسول الله ) فأقرت له بالرسالة ( قال) r لسيدها : ( أعتقها فإنها مؤمنه ) فيه دليل على إن من شهد هذه الشهادة أنه مؤمن وأن العتق يشترط له الإيمان . والشاهد من الحديث : أن فيه دليلا على علو الله على خلقه فوق سماواته وأنه يشار إليه في جهة العلو إشارة حسية .
7- إثبات معية الله تعالى لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه
وقوله : ( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك أينما كنت ) حديث حسن أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت – وقوله : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهة فإن الله قبل وجهه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) متفق عليه . وقوله اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شئ فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت أخذ بناصيتها . أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ . اقض عني الدين وأغنني من الفقر ) رواه مسلم – وقوله لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر : ( أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً – إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه .  

 
الشرح :
   قوله ( أفضل الإيمان ) أي من أفضل خصاله وفي هذا دليل على أن الإيمان يتفاضل
( أن تعلم أن الله معك ) أي بعلمه واطلاعه ( حيثما كنت ) أي في أي مكان وجدت – فمن علم ذلك استوت علانيته وسريرته فهابه في كل مكان ( أخرجه الطبراني ) أبو القاسم سليمان اللخمي أحد الحفاظ المكثرين . وقد روى هذا الحديث في المعجم الكبير. وفي الحديث دليل على إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته بأعمالهم وأنه يجب على العبد أن يتذكر ذلك دائما فيحسن عمله . وقوله : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة ) أي إذا شرع فيها ( فلا يبصق ) أي لا يتفل ( قبل وجهه ) أي أمامه ( قبل ) بكسر القاف وفتح الباء ( فإن الله قبل وجهه ) هذا تعليل للنهي عن البصاق في قبلة المصلى بأن الله سبحانه(قبل وجهه) أي مواجهة وهذه المواجهة كما يليق بالله سبحانه لا يلزم منها أنه سبحانه مختلط بخلقه بل هو فوق سمواته مستو على عرشه وهو قريب من خلقه محيط بهم . ( ولا عن يمينه ) أي ولا يبصق المصلي عن يمينه تشريفا لليمين ولأن الملكين عن يمينه كما في رواية للبخاري ( ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) أي ولكن ليبصق المصلى في جهة يساره أو يبصق تحت قدمه – والشاهد من الحديث : أن فيه أثبات قرب الله سبحانه من عبده المصلي وإقباله عليه وهو سبحانه فوقه – وقوله r ( اللهم رب السموات السبع ) اللهم أصله يا الله – فالميم عوض عن ياء النداء – رب السموات السبع ) أي خالقها ومالكها – ( ورب العرش العظيم ) أي الكبير الذي لا يقدر قدره إلا الله فهو أعظم المخلوقات – وتقدم تفسير العرش ( ربنا ورب كل شئ ) أي خالقنا ورازقنا وخالق كل شئ ومالكه ففيه إثبات ربوبيته لكل شئ ( فالق الحب والنوى ) أي شاق حب الطعام ونوى التمر للإنبات
( منزل التوراة ) على موسى ( والإنجيل ) على عيسى ( والقرآن ) على محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وفي ذلك دليل على فضل هذه الكتب وأنها منزلة من الله تعالى ( أعوذ ) أي التجئ واعتصم (بك) يا الله ( من شر كل دابة ) أي كل ما دب على وجه الأرض ( أنت أخذ بناصيتها ) الناصية مقدم الرأس – أي هي تحت قهرك وسلطانك تصرفها كيف تشاء- لتصرف شرها عني ( أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ ) هذه الأسماء الأربعة أسمان لأزليته وهما ( الأول والأخر ) واسمان لعلوه وقربه وهما ( الظاهر والباطن ) وهما محل الشاهد من الحديث : لأن فيهما إثبات علو الله وقربه – وأنهما لا يتنافيان ولا يتناقصون فهو قريب في علوه علي في دنوه .
( اقض عني الدين ) أي أد عني حقوق الله وحقوق الخلق وفي هذا التبري من الحول والقوة
( وأغننى من الفقر ) الفقر الحاجة والفقير هو من لا يجد شيئا أو يجد بعض الكفاية – وفي الحديث أيضاً مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائها وصفاته في قضاء الحاجة وإجابة الدعاء .
( وقوله r لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر وذلك في غزوة خيبر كما جاء في بعض طرق الحديث وأن الذكر الذي رفعوا به أصواتهم هو التكبير الله اكبر لا إله إلا الله – وقوله ( أربعوا) أي أرفقوا ( فإنكم ) تعليل للأمر بالرفق ( لا تدعون أصم ولا غائباً ) لا يسمع دعاءكم ولا يراكم فنفى الآفة المانعة من السمع والآفة المانعة من النظر وأثبت ضدهما فقال ( إنما تدعون سميعا بصيراً قريباً ) فلا داعي لرفع الصوت ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) فهو قريب ممن دعاه وذكره فلا حاجة لرفع الأصوات وهو قريب يسمعها إذا خفضت كما يسمعها إذا رفعت . والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات قرب الله سبحانه من داعيه يسمع الأصوات الخفية كما يسمع الأصوات الجهرية. فأفادت هذه الأحاديث جميعاً إثبات معية الله لخلقه وقربه منهم وسماعه لأصواتهم ورؤيته لحركاتهم – وذلك لا ينافي علوه واستواءه على عرشه وقد تقدم الكلام على المعية وأنواعها وشواهدها من القرآن الكريم مع تفسير تلك الشواهد. والله أعلم .
8- إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
وقوله : ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ) متفق عليه .

 
الشرح :
   قوله ( إنكم سترون ربكم ) الخطاب للمؤمنين . والسين للتنفيس ويراد بها التأكيد وقوله
( ترون ربكم ) أي تعاينونه بأبصاركم – والأحاديث الواردة بإثبات رؤية المؤمنين لربهم متواترة – قوله ( كما ترون القمر ليلة البدر ) أي ليلة كماله وهي الليلة الرابعة عشرة من الشهر – فإنه في تلك الليلة يكون قد امتلأ نورا – والمراد من هذا التشبيه تحقيق الرؤية وتأكيدها ونفي المجاز عنها – وهو تشبيه للرؤية بالرؤية لا تشبيه للمرئي بالمرئي لأنه سبحانه : ( ليس كمثله شئ ). وقوله ( لا تضامون في رؤيته ) بضم التاء وتخفيف الميم أي لا يلحقكم ضيم أي ظلم بحيث يراه بعضكم دون بعض – وروى بفتح التاء وتشديد الميم – من التضام أي لا ينضم بعضكم إلى بعض لأجل رؤيته – والمعنى على هذه الرواية: لا تجتمعون في مكان واحد لرؤيته فيحصل بينكم الزحام – والمعنى على الروايتين: أنكم ترونه رؤية محققة كل منكم يراه وهو في مكانه – وقوله ( فإن استطعتم أن لا تغلبوا ) أي لا تصيروا مغلوبين ( على صلاة قبل طلوع الشمس ) وهي صلاة الفجر ( وصلاة قبل غروبها ) وهي صلاة العصر
( فافعلوا ) أي حافظوا على هاتين الصلاتين في الجماعة في أوقاتها وخص هاتين الصلاتين لاجتماع الملائكة فيهما فهما أفضل الصلوات فناسب أن يجازي من حافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى وجه الله تعالى . والشاهد من الحديث : أن فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم عيانا يوم القيامة – وقد تقدم ذكر من خالف في ذلك مع الرد عليه – عند الكلام على تفسير الآيات التي فيها إثبات الرؤية والله أعلم .
موقف أهل السنة من هذه الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله r عن ربه بما تخبر به فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل . ومن غير تكييف ولا تمثيل .

 
  
 
 
الشرح :
   هذا بيان لموقف أهل السنة والجماعة من أحاديث الصفات الواردة عن الرسول الله r . أنه كموقفهم من آيات الصفات الواردة في القرآن سواء – وهو الإيمان بها واعتقاد ما دلت عليه على حقيقته. لا يصرفونها عن ظاهرها بأنواع التأويل الباطل. ولا ينفون ما دلت عليه فيعطلونها . ولا يشبهون الصفات المذكورة فيها بصفات المخلوقين لأن الله ( ليس كمثله شئ ) وهم بذلك يخالفون طريقة المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين كان موقفهم من هذه النصوص موقف المنكر لها أو المؤول لما دلت عليه وبخلاف المشبهة الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه – ( تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا) .

" مكانة أهل السنة والجماعة بين فريق الأمة "
بل هم الوسط في فرق الأمة . كما أن الأمة هي الوسط في الأمم . فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة . وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم . وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم . وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية . وفي باب أصحاب رسول الله r بين الرافضة والخوارج . 

 
 
 
الشرح :
   لما بين الشيخ رحمه الله موقف أهل السنة والجماعة من النصوص الواردة في الكتاب والسنة في صفات الله تعالى أراد أن يبين مكانتهم بين فرق الأمة حتى يعرف قدرهم وفضلهم بمقارنتهم بغيرهم. فإن الضد يظهر حسنه الضد . وبضدها تتبين الأشياء قال رحمه الله ( بل هم الوسط في فرق الأئمة ) قال في المصباح المنير. الوسط بالتحريك: المعتدل والمراد بالوسط هنا العدل الخيار قال تعالى في الآية ( 143) من سورة البقرة ( وكذلك جعلناهم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) فأهل السنة وسط بمعنى أنهم عدول خيار. وبمعنى أنهم متوسطون بين فريقي الإفراط والتفريط فهم وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام كما أن الأمة الإسلامية وسط بين الأمم. فهذه الأمة وسط بين الأمم التي تميل إلى الغلو والإفراط والأمم التي تميل إلى التفريط والتساهل. وأهل السنة والجماعة من هذه الأمة وسط بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفت عن الصراط المستقيم فغلا بعضها وتطرف . وتساهل بعضها وانحرف . ثم بين الشيخ رحمة الله تفصيل ذلك فقال : (فهم ) أي أهل السنة والجماعة أولا : ( وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة ) فالجهمية ( نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ) هؤلاء غلوا وأفرطوا في التنزيه حتى نفوا أسماء الله وصفاته حذرا من التشبيه بزعمهم وبذلك سموا معطلة . لأنهم عطلوا الله من أسمائه وصفاته ( وأهل التمثيل المشبهة ) سموا بذلك لأنهم غلوا وأفرطوا في إثبات الصفات حتى شبهوا الله بخلقه ومثلوا صفاته بصفاتهم ( تعالى الله عما يقولون ) وأهل السنة توسطوا بين الطرفين فأثبتوا صفات الله على الوجه اللائق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل فلم يغلوا في التنزيه ولم يغلوا في الإثبات . بل نزهوا الله بلا تعطيل وأثبتوا له الأسماء والصفات بلا تمثيل .
ثانيا : وأهل السنة والجماعة ( وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية ) فالجبرية ( نسبة إلى الجبر لأنهم يقولون إن العبد مجبور على فعله ) فهم غلوا في إثبات أفعال الله حتى نفوا أفعال العباد وزعموا أنهم لا يفعلون شيئا وإنما الله هو الفاعل والعبد مجبور على فعله فحركاته وأفعاله كلها اضطرارية كحركات المرتعش – وإضافة الفعل إلى العبد مجاز ( والقدرية ) نسبة إلى القدر غلوا في إثبات أفعال العبد فقالوا ان العبد يخلق فعل نفسه بدون مشيئة الله وإرادته فأفعال العباد لا يدخل تحت مشيئة الله وإرادته فالله يقدرها ولم يردها وإنما فعلوها هم استقلالا . وأهل السنة توسطوا وقالوا للعبد اختيار ومشيئة وفعل يصدر منه . ولكنه لا يفعل شيئا بدون إرادة الله ومشيئته وتقديره قال تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون )( الآية 96) من سورة الصافات . فاثبت للعباد عملا هو من خلق الله تعالى وتقديره . وقال تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) الآية (29) من سورة التكوير فأثبت للعباد مشيئة تأتي بعد مشيئة الله تعالى وسيأتي لهذا مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى في مبحث القدر .
ثالثا : وأهل السنة والجماعة وسط ( في باب وعيد الله ) والوعيد : التخويف والتهديد والمراد هنا النصوص التي فيها توعُّد للعصاة بالعذاب والنكال وقوله ( بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم ) المرجئة – نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير – سموا بذلك لأنهم أخروا الأعمال عن مسمى الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق وقالوا : لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة فعندهم أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان غير معرض للوعيد فهم تساهلوا في الحكم على العاصي وأفرطوا في التساهل حتى زعموا أن المعاصي لا تنقص الإيمان ولا يحكم على مرتكب الكبيرة بالفسق – وأما الوعيدية : فهم الذين قالوا بانفاذ الوعيد على العاصي وشددوا في ذلك حتى قالوا إن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب فهو مخلد في النار – وحكموا بخروجه من الإيمان في الدنيا – وأهل السنة والجماعة توسطوا بين الطرفين فقالوا : إن مرتكب الكبيرة أثم ومعرض للوعيد وناقص الإيمان ويحكم عليه بالفسق
 ( لا كما تقول المرجئة إنه كامل الإيمان وغير معرض للوعيد ) ولكنه لا يخرج من الإيمان ولا يخلد في النار إن دخلها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ( لا كما تقوله الوعيدية بخروجه من الإيمان وتخليده في النار) فالمرجئة أخذوا بنصوص الوعد . والوعيدية اخذوا بنصوص الوعيد – وأهل السنة والجماعة جمعوا بينهما .
رابعا : وأهل السنة والجماعة وسط ( في باب أسماء الإيمان والدين ) أي الحكم على الإنسان بالكفر أو الإسلام أو الفسق وفي جزاء العصاة في الدنيا والآخرة . (بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية ) الحرورية هم الخوارج سموا بذلك نسبة إلى حروري قرية بالعراق اجتمعوا فيها حين خرجوا على علي رضى الله عنه . والمعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزال مجلس الحسن البصري وانحاز إليه أتباعه بسبب خلاف وقع بينهما في حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين فقال الحسن رحمه الله عن واصل هذا : إنه قد اعتزلنا – فسموا معتزلة فمذهب الخوارج والمعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة من المسلمين مذهب متشدد حيث حكموا عليه بالخروج من الإسلام ثم قال المعتزلة : إنه ليس بمسلم ولا كافر بل هو بالمنزلة بين المنزلتين وقال الخوارج إنه كافر – واتفقوا على أنه إذا مات على تلك الحال أنه خالد مخلد في النار . وقابلتهم المرجئة والجمهية فتساهلوا في حكم مرتكب الكبيرة وأفرطوا في التساهل معه فقالوا لا يضر مع الإيمان معصية لأن الإيمان عندهم هو تصديق القلب فقط أو مع نطق اللسان على خلاف بينهم ولا تدخل فيه الأعمال فلا يزيد بالطاعة ولا ينقص بالمعصية – فالمعاصي لا تنقص الإيمان ولا يستحق صاحبها النار إذا لم يستحلها – وأهل السنة والجماعة توسطوا بين الفريقين فقالوا : إن العاصي لا يخرج من الإيمان لمجرد المعصية – وهو تحت المشيئة إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه في النار لكنه لا يخلد فيها كما تقول الخوارج والمعتزلة – والمعاصي تنقص الإيمان ويستحق صاحبها دخول النار إلا أن يعفو الله عنه ومرتكب الكبيرة يكون فاسقاً ناقص الإيمان – لا كما تقول المرجئة إنه كامل الإيمان والله تعالى أعلم .
خامساً : أهل السنة والجماعة وسط في حق ( أصحاب رسول الله r بين الرافضة والخوارج ) الصحابي هو من لقي النبي r مؤمنا به ومات على ذلك , والرافضة اسم مأخوذ من الرفض وهو الترك – سموا بذلك لأنهم قالوا لزيد بن علي بن الحسين تبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر – فأبى وقال ومعاذ الله – فرفضوه فسموا رافضة ومذهبهم في صحابة رسول الله r أنهم غلو في علي t وأهل البيت وفضلوهم على غيرهم ونصبوا العداوة لبقية الصحابة خصوصاً الخلفاء الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وسبوهم ولعنوهم وربما كفروهم أو كفروا بعضهم – وقابلهم الخوارج فكفروا عليا t وكفروا معه كثيرا من الصحابة وقاتلوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم – وأهل السنة والجماعة خالفوا الجميع فوالوا جميع الصحابة ولم يغلوا في أحد منهم واعترفوا بفضل جميع الصحابة وأنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها ويأتي لهذا مزيد بيان .

وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه ومعيته
لخلقه وأنه لا تنافي بينهما
فصل
قال رحمه الله :  
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علي على خلقه ، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون . كما جمع بين ذلك في قوله : ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعلمون بصير )(133) وليس معنى قوله ( وهو معكم أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة . وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة . وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر أية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان ، وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته .

 
 
الشــرح :
خصص المصنف رحمه الله هاتين المسألتين ( الاستواء على العرش ومعيته للخلق ) بالتنبيه ليزيل الإشكال فقد يتوهم وجود التنافي بينهما فقد يظن الظان أن ذلك مثل صفات المخلوقين وأنه مختلط بهم فكيف يكون فوق خلقه مستويا على عرشه ويكون مع خلقه قريباً منهم بدون مخالطة والجواب عن هذه الشبهة – كما وضحه الشيخ رحمه الله – من وجوه :
الوجه الأول : أن هذا لا توجبه لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم – فإن كلمة ( مع ) في اللغة المصاحبة لا تفيد اختلاطاً وامتزاجاً ولا مجاورة ولا مماسة – فإنك تقول زوجتي معي وأنت في مكان وهي في مكان آخر – وتقول مازلنا نسير والقمر معنا – وهو في السماء ويكون مع المسافر وغير المسافر أينما كان – وإذا صح أن يقال هذا في حق القمر وهو مخلوق صغير- فكيف لا يقال في حق الخالق الذي هو أعظم من كل شئ .
الوجه الثاني : أن هذا القول خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ( وهم القرون المفضلة ) الذين هم القدوة فقد أجمعوا على أن الله مستمر على عرشه عال على خلقه بائن منهم وأجمعوا على أنه مع خلقه بعلمه سبحانه وتعالى كما فسروا قوله تعالى : ( وهو معكم ) بذلك ,
الوجه الثالث : أن هذا خلاف ما فطر الله عليه الخلق أي ركزه في فطرهم – فإن الخلق فطروا على الإقرار بعلو الله سبحانه على خلقه فإن الخلق يتجهون إلى الله عند الشدائد والنوازل نحو العلو لا تلتفت يمنة لا يسرة يرشدهم إلى ذلك أحد وإنما ذلك بموجب الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
الوجه الرابع : أن هذا خلاف ما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله من أنه سبحانه وتعالى على عرشه علي على خلقه وهو معهم أينما كانوا ( والمتواتر من النصوص هو ما رواه جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء ) والآيات والأحاديث في هذا كثيرة منها الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله والله أعلم وقول المصنف رحمه الله ( وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم ) تقرير وتأكيد لما سبق من ذكر علوه على عرشه وكونه مع خلقه بذكر اسمين من أسمائه سبحانه وهما ( الرقيب والمهيمن ) قال الله تعالى : ( إن الله كان عليكم رقيبا) (134) والرقيب هو المراقب لأحوال عباده وفي ذلك دلالة على قربه منهم – وقال تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن )(135) والمهيمن هو الشاهد على خلقه المطلع على أعمالهم الرقيب عليهم ( إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ) أي أن مقتضى ربوبيته سبحانه أن يكون فوق خلقه بذاته ويطلع على أعمالهم ويكون قريباً منهم بعلمه وإحاطته يصرف شئونهم ويحصى أعمالهم ويجازيهم عليها .
ما يجب اعتقاده في علوه ومعيته سبحانه ومعنى كونه سبحانه ( في السماء ) وأدلة ذلك
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان فإن الله قد ( وسع كرسيه السموات والأرض ) (136) وهو الذي ( يمسك السموات والأرض أن تزولا)(137) (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه )(138) ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره )(139)

 
الشرح :
يبين الشيخ رحمه الله ما يجب اعتقاده بالنسبة لما أخبر الله به عن نفسه من كونه فوق العرش وهو معنا – أنه يجب الإيمان به كما أخبر الله ولا يجوز تأويله وصرفه عن ظاهره كما يفعله المعطلة من الجهمية والمعتزلة وأشباههم فيزعمون أن ذلك ليس حقيقة وإنما هو مجاز فيئولون الاستواء على العرش بالاستيلاء على الملك وعلو الله على خلقه بعلو قدره وقهره ونحو ذلك من التأويلات الباطلة التي هي تحريف لكلام الله عن مواضعه . ومنهم من يقول إن معنى كونه معنا أنه حال في كل مكان كما تقوله حلولية الجمهية وغيرهم تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . وقوله ( ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تقله أو تظله ) تقله : أي تحمله وتظله : أي تستره والظلة الشئ الذي يظلك من فوقك – وليس هذان المعنيان مرادين في كونه سبحانه في السماء . ومن ظن ذلك فقد أخطأ غاية الخطأ وذلك لأمرين:
الأمر الأول : أن هذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم والإيمان فقد أجمعوا على أنه سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شئ من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شئ من ذاته وقد تقدم الكلام في تفسير قوله تعالى: (( أأمنتم في السماء )) وأنه إن أريد بالسماء السماء المبنية ( ففي ) بمعنى ( على ) أي على السماء كقوله : ( لأصلبنكم في جذوع النخل ) أي على جذوع النخل – وإن أريد بالسماء العلو كان المعنى ( في السماء ) أي في العلو والله أعلم .
الأمر الثاني : أن هذا الظن مخالف ومصادم لأدلة القرآن الدالة على عظمة الله وغناه عن خلقه وحاجة خلقه إليه كما في قوله تعالى : ( وسع كرسيه السموات والأرض ) والكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش وهو أعظم من السموات والأرض والعرش أعظم منه – فإذا كانت السموات والأرض أصغر من الكرسي والكرسي أصغر من العرش – والله أعظم من كل شئ فكيف تحويه السماء أو تقله أو تظله .
وكذلك قوله تعالى : ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ( ويسمك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه )( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) فهذه الآيات تدل على أن السموات والأرض بحاجة إليه فهو الذي يمسكها أن تزول أو تقع ويكون قيامها بأمره وحده – فلا يعقل مع هذا أن يكون سبحانه بحاجة إليها لتقله أو تظله تعالى الله عن هذا الظن الباطل علوا كبيرا .
" وجوب الإيمان بقربه من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته "
قال رحمه الله : فصل
وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ  )(140) وقوله r : ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته . وهو عليٌّ في دنوه قريب في علوه .

 
 
 
الشرح :
لما قرر المصنف وجوب الإيمان بعلو الله سبحانه على خلقه واستواه على عرشه نبه في هذا الفصل إلى أنه يجب مع ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه وقوله : ( وقد دخل في ذلك ) أي في الإيمان بالله ( الإيمان بأنه قريب ) أي من خلقه ( مجيب ) لدعائهم ( كما جمع بين ذلك ) أي بين القرب والإجابة في قوله ( وإذا سألك عبادي عني ) ورد في سبب نزول هذه الآية . أن رجلا جاء إلى النبي r فقال يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنادته فسكت النبي r فنزلت هذه الآية (141) ( فإني قريب ) من الداعي ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) وهذا يدل على الإرشاد إلى المناجاة في الدعاء بدون رفع صوت كما في قوله r ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) سبق شرحه – وفي هذه الآية وهذا الحديث دلالة على قرب الله تعالى من الداعي بإجابته وهذا القرب لا يناقض علوه ولهذا قال المصنف ( وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ) لأن الكل حق والحق لا يتناقض ولأن الله تعالى : ( ليس كمثله شئ في جميع نعوته ) أي صفاته فلا يقال إذا كان فوق خلقه فكيف يكون معهم لأن هذا السؤال ناشئ عن تصور خاطئ هو قياسه سبحانه بخلقه وهذا قياس باطل لأن الله سبحانه ( ليس كمثله شئ ) فالقرب والعلو يجتمعان في حقه لعظمته وكبريائه وإحاطته وأن السموات السبع في يده كخردله في يد العبد فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف يشاء وهو على العرش . ( وهو عليٌّ في دنوه قريب في علوه ) سبحانه وتعالى كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الملة وهو من خصائصه سبحانه ( علي في دنوه ) أي في حال قربه من خلقه ( قريب في علوه ) أي قريب من خلقه في حال علوه على عرشه .
"وجوب الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة "
قال رحمه الله : فصـل
ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة. وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد r هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره . ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة. بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة. فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا. وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني . ولا المعاني دون الحروف .

 
 
الشرح :
من أصول الإيمان: الإيمان بالله والإيمان بكتبه – كما سبق ويدخل في هذين الأصلين الإيمان بأن القرآن كلام الله . فالإيمان بالله عز وجل يتضمن الإيمان بصفاته . وكلامه من صفاته فإن الله تعالى موصوف بأنه يتكلم بما شاء إذا شاء لم يزل ولا يزال يتكلم وكلامه لا ينفد ونوع الكلام في حقه أزلي أبدى ومفرداته لا تزال تقع شيئا فشيئا حسب حكمته تعالى . ومن كلامه القرآن العظيم الذي هو أعظم كتبه – فهو داخل في الإيمان بكتبه دخولا أوليا وهو منزل منه سبحانه فهو تكلم به وأنزله على رسوله r وسلم فهو ( منزل غير مخلوق ) لأنه صفة من صفاته أضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها وصفاته غير فكلامه غير مخلوق . وقد خالف في هذا طوائف ذكر الشيخ رحمه الله هنا مقالة بعضهم فذكر :
1- مقالة الجمهية حيث يقولون إن الله لا يتكلم وإنما خلق كلاما في غيره وجعله يعبر عنه فإضافة الكلام عندهم إلى الله مجاز لا حقيقة لأنه خلق الكلام فهو متكلم بمعنى خالق الكلام في في غيره – وهذا القول باطل مخالف للأدلة السمعية والعقلية ومخالف لقول السلف وأئمة المسلمين فإنه لا يعقل أن يسمى متكلما إلا من قام به الكلام حقيقة فكيف يقال – قال الله والقائل غيره وكيف يقال كلام الله هو كلام غيره .
وقول المصنف : ( منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد r هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ) قصده بهذا الرد على الجمهية الذين يقولون إن القرآن بدا من غيره وأن الله لم يتكلم به حقيقة بل مجازا وهو كلام غيره أضيف إليه لأنه خالقه . ومعنى قوله
( منه بدا ) أن القرآن بدا وخرج من الله تعالى وتكلم به (من) لابتداء الغاية وقوله ( إليه يعود ) أي أن القرآن يرجع إلى الله تعالى لأنه يرفع في آخر الزمان فلا يبقى منه شيء في الصدور ولا في المصاحف وذلك من علامات الساعة أو معنى ذلك أنه ينسب إليه .
2- ثم ذكر الشيخ رحمه الله هنا مقالة الكلابية ( أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ) في القرآن أنه حكاية عن كلام الله لأن كلام الله عندهم هو المعنى القائم في نفسه لازم لذاته كلزوم الحياة والعلم لا يتعلق بمشيئته وإرادته وهذا المعنى القائم في نفسه غير مخلوق وهذه الألفاظ المكونة من حروف وأصوات مخلوقه وهي حكاية لكلام الله وليست هي كلامه .
3- وذكر مقالة الأشاعرة ( أتباع أبي الحسن الأشعري ) أن القرآن عبارة عن كلام الله – لأن كلام الله عندهم معنى قائم في نفسه وهذا المعنى غير مخلوق أما هذه الألفاظ المقروءة فهي عبارة عن ذلك المعنى القائم بالنفس وهي مخلوقه ولا يقال إنها حكاية عنه .
وبعض العلماء يقول إن الخلاف بين الكلابية والأشاعرة خلاف لفظي لا طائل تحته فالأشاعرة والكلابية يقولون القرآن نوعان ألفاظ ومعان – فالألفاظ مخلوقة وهي هذه الألفاظ الموجودة والمعاني قديمة قائمة بالنفس و هي معنى واحد لا تبعض فيه ولا تعدد . وعلى كل حال فالقولان إن لم يكونا متفقين فهما متقاربان .
وقد أشار الشيخ رحمه الله إلى بطلان هذين القولين بقوله : ( ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله ) أي كما تقول الكلابية ( أو عبارة عنه ) كما تقول الأشاعرة ( بل إذا قرآه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج عن أن يكون كلام الله حقيقة ) أي أن القرآن العظيم كلام الله ألفاظه ومعاينه أين وجد سواء حفظ في الصدور أو تلي بالألسنة أو كتب في المصاحف لا يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة – ثم ذكر الشيخ رحمه الله دليل ذلك فقال ( فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ) فإن المبلغ المؤدي إنما يسمى واسطة فقط قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ )(الآية (6) من سورة التوبة . والسماع المذكور في هذه الآية إنما يكون بواسطة المبلغ وسمي المسموع كلام الله فدل على أن الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا .
4- ثم ذكر الشيخ رحمه الله مقالة المعتزلة – حيث يقولون إن كلام الله الحروف دون المعاني فيقولون إن مسمي القول والكلام عند الإطلاق اسم للفظ فقط والمعنى ليس جزء مسماه بل هو مدلول مسماه.
ثم ذكر رحمه الله المذهب المقابل لذلك فقال : ( ولا المعاني دون الحروف ) كما هو مذهب الكلابية والأشاعرة وكما سبق شرحه . والمذهب الحق أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه كما هو قول أهل السنة والجماعة وهو الذي قامت عليه الأدلة من الكتاب والسنة والحمد لله رب العالمين.
 
" وجوب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية "
قال رحمه الله: فصل ( وقد دخل أيضا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه القيامة عيانا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب. وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته. يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة . ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله .

 
 
الشرح :
وجه دخول الإيمان بالرؤية في الإيمان بالله وبكتبه وبرسله أن الله سبحانه أخبر بها في كتابه وأخبر بها رسوله r ، فمن لم يؤمن بها كان مكذبا لله ولكتبه ولرسله فإن الذي يؤمن بالله وكتبه ورسله يؤمن بكل ما أخبروا به وقوله : ( عيانا ) بكسر العين أي رؤية محققة لا خفاء فيها فليست مجازاً كما تقوله المعطلة
( كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ) أي رؤية حقيقية لا مشقة فيها كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث التي سبق شرحها . وقوله : ( يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة ) هذا بيان للمواضع التي تحصل فيها الرؤية وذلك في موضعين الموضع الأول في عرصات القيامة والعرصات جمع عرصة وهي الموضع الواسع الذي لا بناء فيه الأول وعرصات القيامة : مواقف الحساب – وهل يختص المؤمنون برؤيته في هذا الموضع في المسألة ثلاثة أقوال – قبل يراه في عرصات القيامة المؤمنون والمنافقون والكفار – وقيل يراه المؤمنون والمنافقون فقط دون الكفار . وقيل يراه المؤمنون فقط – والله أعلم .
الموضع الثاني : يراه المؤمنون بعد دخولهم الجنة كما ثبت ذلك في الأدلة من الكتاب والسنة وسبق ذكر بعض تلك الأدلة مشروحة . وسبق ذكر شبه من نفي الرؤية مع الرد عليها ، والجنة في اللغة البستان والمراد بها هنا الدار التي أعدها الله لأوليائه وهي دار النعيم المطلق الكامل . وقول الشيخ ( كما يشاء الله ) أي من غير إحاطة . ولا تكييف لرؤيته . 
" ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر "
1 – ما يكون في القبر :
قال رحمه الله : فصل : ( ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه . فأما الفتنة فان الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل : من ربك وما دينك ومن نبيك . فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . فيقول المؤمن : ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلي الله عليه وسلم نبيي . وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته . فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق . ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلي أن تقوم القيامة الكبرى . 
الشرح :
   اليوم الآخر هو يوم القيامة والإيمان به أحد أركان الإيمان وقد دل عليه العقل والفطرة وصرحت به جميع الكتب السماوية ونادي به جميع الأنبياء والمرسلون وسمي باليوم الآخر لتأخره عن الدنيا ـ وقد ذكر الشيخ رحمه الله هنا ضابطا شاملا لمعني الإيمان باليوم الآخر بأنه الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيدخل فيه الإيمان بكل ما دلت عليه النصوص من حالة الاحتضار وحالة الميت في القبر والبعث من القبور وما يحصل بعده ثم أشار الشيخ رحمه الله إلي أشياء من ذلك .
   منها ما يكون في القبر فقال : ( فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه ) فذكر أمرين:
   الأمر الأول : فتنة القبر ـ والفتنة لغة : الامتحان والاختبار والمراد بها هنا سؤال الملكين للميت ولهذا قال : ( فأما الفتنة فان الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل ) أي الميت سواء كان رجلا أو امرأة ـ ولعل ذكر الرجل من باب التغليب ـ ثم ذكر الأسئلة التي توجه إلي الميت وما يجيب به المؤمن وما يجيب به غير المؤمن وما يكون بعد هذه الإجابة من نعيم أو عذاب ـ والإيمان بسؤال الملكين واجب لثبوته عن النبي صلي الله عليه وسلم في أحاديث يبلغ مجموعها حد التواتر . ويدل علي ذلك القرآن الكريم في قوله تعالي : {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} سورة إبراهيم الآية (27) فقد أخرج الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلي الله عليه وسلم قال في قوله تعالي : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) نزلت في عذاب القبر ـ زاد مسلم : ( يقال له من ربك فيقول ربي الله ونبيي محمد فذلك قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) ـ والقول الثابت هو كلمة التوحيد التي ثبتت في قلب المؤمن بالحجة والبرهان ـ وتثبيت المؤمنين بها في الدنيا أنهم يتمسكون بها ولو نالهم في سبيلها ما نالهم من الأذى والتعذيب. وتثبيتهم بها في الآخرة توفيقهم للجواب عند سؤال الملكين. وقوله:
( وأما المرتاب) أي الشاك ( فيقول ) إذا سئل ( هاه هاه ) كلمة تردد وتوجع ( لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) لأنه غير مؤمن بما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فيستعجم عليه الجواب ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم كما قال تعالي : ( ويضل الله الظالمين )
( فيضرب بمرزبة من حديد ) وهي المطرقة الكبيرة ( فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ) ثم بين الحكمة من عدم سماع الإنسان لها بقوله: ( ولو سمعها الإنسان لصعق ) أي خر ميتا أو غشي عليه ومن حكمة الله أيضا أن ما يجري علي الميت في قبره لا يحس به الأحياء لأن الله تعالي جعله من الغيب ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة وهي الإيمان بالغيب .
   الأمر الثاني : مما يجري علي الميت في قبره ما أشار إليه الشيخ بقوله: ( ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلي أن تقوم القيامة الكبرى ) هذا فيه إثبات عذاب القبر أو نعيمه ومذهب أهل السنة والجماعة أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه كما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فيجب الإيمان به ولا يتكلم في كيفيته وصفته لأن ذلك لا تدركه العقول لأنه من أمور الآخرة وأمور الآخرة لا يعلمها إلا الله ومن أطلعهم الله علي شيء منه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. وأنكر عذاب القبر المعتزلة وشبهتهم في ذلك أنهم لا يدر كونه ولا يرون الميت يعذب ولا يسأل . والجواب عن ذلك أن عدم إدراكنا ورؤيتنا للشيء لا يدل علي عدم وجوده ووقوعه فكم من أشياء لا نراها وهي موجودة ومن ذلك عذاب القبر أو نعيمه. وأن الله تعالي جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك العقول في هذه الدار ليتميز الذين يؤمنون بالغيب من غيرهم. وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا ـ والله أعلم . وعذاب القبر علي نوعين ـ النوع الأول عذاب دائم وهو عذاب الكافر ـ كما قال تعالي: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ) سورة غافر الآية (46) النوع الثاني : يكون إلي مدة ثم ينقطع عنه العذاب بسبب دعاء أو صدقة أو استغفار .
2 – القيامة الكبرى وما يجري فيها
إلي أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلي الأجساد. وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلي لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا .
الشرح :
   أشار الشيخ رحمه الله في هذا وما بعده إلي ما يكون في الدار الآخرة وهي التي تبدأ بالقيامة الكبرى ـ فان الدور ثلاث : دار الدنيا. ودار البرزخ. والدار الآخرة ـ وكل دار من هذه الدور الثلاث لها أحكام تخصها. وحوادث تجري فيها وقد تكلم الشيخ علي ما يكون في دار البرزخ ـ وهنا أخذ يتكلم علي ما يكون في الدار الآخرة فيقول: ( ثم تقوم القيامة الكبرى) القيامة قيامتان ـ قيامة صغري وهي الموت وهذه القيامة تقوم علي كل إنسان في خاصته من خروج روحه وانقطاع سعيه ـ وقيامة كبري وهذه تقوم علي كل الناس جميعا وتأخذهم أخذة واحدة ـ وسميت قيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ولهذا قال ( فتعاد الأرواح إلي الأجساد ) وذلك عندما ينفخ إسرافيل في الصور قال تعالي: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) الآيتان (51-52) من سورة يس وقال تعالي : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) الآية (68) من سورة الزمر والأرواح جمع روح وهي ما يحيا به الإنسان وغيره من ذوات الأرواح ولا يعلم حقيقتها إلا الله. قال تعالي: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية (85) الإسراء وقوله: ( وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابة وعلي لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون ) إشارة إلي أدلة البعث وأنه ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والعقل والفطر السليمة . فقد أخبر الله عنه في كتابه وأقام الدليل عليه ورد علي المنكرين للبعث في غالب سور القرآن. ولما كان نبينا محمد صلي الله عليه وسلم خاتم النبيين بين تفاصيل الآخرة بيانا لا يوجد في كثير من كتب الأنبياء. والجزاء علي الأعمال ثابت بالعقل وواقع في الشرع فان الله نبه العقول إلي ذلك في مواضع كثيرة من القرآن حيث ذكرها أنه لا يليق بحكمته وحمده أن يترك الناس سدي أو يخلقهم عبثا لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون. وأن يكون المحسن كالمسيء أو يجعل المسلمين كالمجرمين. فإن بعض المحسنين يموت قبل أن يجزي علي إحسانه. وبعض المجرمين يموت قبل أن يجازي علي إجرامه. فلابد أن هناك داراً يجازي فيها كل منهما. ومنكر البعث كافر ـ كما قال تعالي: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا) الآية (7) التغابن وقوله: ( فيقوم الناس من قبورهم حفاة ) جمع حاف وهو الذي ليس علي رجله نعل ولا خف (عراة) جمع عار وهو الذي ليس عليه لباس (غرلا) جمع أغرل وهو الأقلف الذي لم يختن ـ وهذه الصفات الثلاث يكونون عليها حين قيامهم من قبورهم وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إنكم تحشرون إلي الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا) الحديث.
ما يجري في يوم القيامة
وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) (142) وتنشر الدواوين ـ وهي صحائف الأعمال فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ـ كما قال سبحانه وتعالي (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (143) ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنهم لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصي فيوقفون عليها ويقررون بها .
الشرح :
   ذكر الشيخ رحمه الله في هذا الكلام بعض ما يجري في يوم القيامة مما ذكر في الكتاب والسنة فان تفاصيل ما يجري في هذا اليوم مما لا يدرك بالعقل وإنما يدرك بالنقول الصحيحة عن النبي صلي الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ( إن هو إلا وحي يوحي) ومن الحكمة في محاسبة الخلائق علي أعمالهم ووزنها وظهورها مكتوبة في الصحف مع إحاطة علم الله بذلك ليري عباده كمال حمده وكمال عدله وسعة رحمته وعظمة ملكه وذكر الشيخ مما يجري في هذا اليوم العظيم علي العباد .
1 – ( أنها تدنوا منهم الشمس ) أي تقرب من رءوسهم كما روي مسلم عن المقداد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ( إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين ) قوله : ( ويلجمهم العرق) أي يصل إلي أفواههم فيصير بمنزلة اللجام يمنعهم من الكلام وذلك نتيجة لدنو الشمس منهم وذلك بالنسبة لأكثر الخلق ويستثني من ذلك الأنبياء ومن شاء الله .
2 – ومما ذكر في هذا اليوم : ( وتنصب الموازين وتوزن بها الأعمال ) الموازين جمع ميزان ـ وهو الذي توزن به الحسنات والسيئات ـ وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان ـ وهو من أمور الآخرة نؤمن به كما جاء ولا نبحث عن كيفيته إلا علي ضوء ما ورد من النصوص ـ والحكمة في وزن الأعمال إظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها ( فمن ثقلت موازينه ) أي رجحت حسناته علي سيئاته ( فأولئك هم المفلحون ) أي الفائزون والناجون من النار المستحقون لدخول الجنة : ( ومن خفت موازينه ) أي ثقلت سيئاته على حسناته ( فأولئك الذين خسروا أنفسهم ) أي خابوا وصاروا إلى النار ( في جهنم خالدون ) أي ماكثون في النار . والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات الموازين والوزن يوم القيامة . وقد ورد ذكر الوزن والموازين في آيات كثيرة من القرآن وقد أفاد مجموع النصوص أنه يوزن العامل والعمل والصحف ولا منافاة بينها فالجميع يوزن ولكن الاعتبار في الثقل والخفة يكون بالعمل نفسه لا بذات العامل ولا بالصحيفة والله أعلم. وقد تأول المعتزلة النصوص وإجماع سلف الأمة وأئمتها . قال الشوكاني: وغاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية وليس في ذلك حجة على أحد . فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم – أ. هـ وأمور الآخرة ليست مما تدركها العقول والله أعلم .
3- ومما ذكره الشيخ من حوادث هذا اليوم العظيم قوله ( وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال ) أي الصحائف التي كتبت فيها أعمال العباد التي عملوها في الدنيا وكتبتها عليهم الحفظة لأنها تطوي عند الموت وتنشر أي تفتح عند الحساب ليقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها ( فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ) هذا فيه بيان كيفية أخذ الناس لصحفهم كما جاء ذلك في القرآن الكريم وهو على نوعين – آخذ كتابه بيمينه وهو المؤمن وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهو الكافر – بأن تلوى يده اليسرى من وراء ظهره ويعطي كتابه بها – كما جاءت الآيات بهذا وهذا ولا منافاة بينهما لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه .
ثم استدل الشيخ بقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الآية وطائره : ما طار عنه من عمله من خير وشر ( في عنقه ) أي يلزم به ويجازي به لا محيد له عنه فهو لازم له لزوم القلادة في العنق . (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله أنم شقيا ( منشورا ) أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره. وإنما قال سبحانه ( يلقاه منشورا ) تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ على السيئة (اقْرَأْ كَتَابَكَ ) أي نقول له ذلك – قيل يقرأ ذلك الكتاب من كان قارئا ومن لم يكن قارئا (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) أي حاسبا وهو منصوف على التمييز – وهذا أعظم العدل حيث جعله حسيب نفسه ليرى جميع عمله لا ينكر منه شيئا والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها إثبات إعطاء كل إنسان صحيفة عمله يوم القيامة يقرؤها بنفسه ويطلع عليها هو لا بواسطة غيره .
5- ثم ذكر الشيخ رحمه الله الحساب فقال ( ويحاسب الله الخلائق ) الحساب : هو تعريف الله عز وجل للخلائق بمقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما قد نسوه من ذلك أو بعبارة أخرى : هو توقيف الله عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرا كانت أو شرا – ثم ذكر الشيخ رحمه الله أن الحساب على نوعين –
 النوع الأول : حساب المؤمن قال فيه :( ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك بالكتاب والسنة ) كما قال الله تعالى : (َأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) الآيات (7-8-9) الانشقاق وفي الصحيحين عن ابن عمر عنهما قال سمعت رسول الله r يقول : ( إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنَفهُ ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا . أتعرف ذنب كذا . أتعرف ذنب كذا . حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته ) ومعنى يقرره بذنوبه : يجعله يقر أي يتعرف بها – كما في هذا الحديث : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا . ومن المؤمنين من يدخل الجنة بغير حساب كما صح في حديث السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. والحساب يختلف فمنه اليسير وهو العرض ومنه المناقشة – وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) فقال رسول الله r : إنما ذلك العرض وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب )
النوع الثاني : حساب الكفار وقد بينه بقوله ( وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فانه لا حسنات لهم ) أي ليس لهم حسنات توزن مع سيئاتهم لأن أعمالهم قد حبطت بالكفر فلم يبق لهم في الآخرة إلا سيئات فحسابهم معناه أنهم ( تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها ) أي يخبرون بأعمالهم الفكرية ويعترفون بها ثم يجازون عليها كما قال تعالى (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) الآية (50) فصلت وقال تعالى : (وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ) الآية (37) الأعراف وقال (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) الآية (11) الملك .  
حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومكانه وصفاته
وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل . آنيته عدد نجوم السماء . طوله شهر وعرضه شهر . من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً

 
الشرح :
6- مما يوجد في القيامة حوض النبي r وقد ذكره الشيخ هنا وبين وأصافه فقال : ( وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي r ) كما ثبت ذلك عن النبي r - قال الإمام ابن القيم : وقد روى أحاديث الحوض أربعون صحابيا وكثير منها أو أكثرها في الصحيح – انتهى – وتقدم بيان معنى العرصات – والحوض لغة : مجمع الماء – وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات الحوض وخالفت في ذلك المعتزلة فلم تقل بإثباته وأولوا النصوص الواردة فيه وأحالوها عن ظاهرها – ثم ذكر الشيخ رحمه الله أوصاف الحوض فقال : ( ماؤه أشد بياضا من اللبن .... الخ ) وهذه الأوصاف ثابتة في الأحاديث كحديث عبدالله بن عمرو المتفق عليه قال قال رسول الله r : ( حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدا ) .
  
الصراط ومعناه ومكانه وصفه مرور الناس عليه
والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار . يمر الناس عليه على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف ويلقي في جهنم . فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم .

 
الشرح :
6- ذكر الشيخ رحمه الله في هذا أن مما يحصل يوم القيامة المرور على الصراط والصراط في اللغة هو الطريق الواضح أما في الشرع فهو ما بينه الشيخ بقوله ( هو الجسر الذي بين الجنة والنار ) وبين مكانه بقوله ( على متن جهنم ) أي على ظهر النار . ثم بين صفة مرور الناس عليه بقوله : ( يمر الناس عليه على قدر أعمالهم ) ووقت المرور عليه بعد مفارقة الناس للموقف والحشر والحساب فان الصراط ينجو عليه المؤمنون من النار إلى الجنة ويسقط منه أهل النار فيها كما ثبت في الأحاديث . ثم فصل الشيخ رحمه الله أحوال الناس في المرور على الصراط فقال: ( فمنهم من يمر كلمح البصر) الخ أي أنهم يكونون في سرعة المرور وبطئه على حسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة التي قدموها في الدنيا فبحسب استقامة الإنسان على دين الإسلام وثباته عليه يكون ثباته ومروره على الصراط فمن ثبت على الصراط المعنوي وهو الإسلام ثبت على الصراط الحسي المنصوب على متن جهنم . ومن زل عن الصراط المعنوي زل عن الصراط الحسي . وقوله ( يعدو عدوا ) أي يركض ركضا وقوله ( يزحف زحفا ) أي يمشي على مقعدته بدل رجليه. وقوله : ( عليه كلاليب ) جمع كلوب بفتح الكاف واللام المشددة المضمومة وهي حديدة معطوفة الرأس – وقوله: تخطف بفتح الطاء ويجوز كسرها من الخطف وهو أخذ الشيء بسرعة. وقوله ( بأعمالهم ) أي بسبب أعمالهم السيئة فيكون اختطاف الكلاليب لهم على الصراط جهنم بحسب اختطاف الشبهات والشهوات لهم عن الصراط المستقيم – وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالصراط المنصوب على متن جهنم ومرور الناس عليه على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن النبي r - وخالف في ذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه وقالوا المراد بالصراط المذكور طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى ( سيهديهم ويصلح بالهم)(144) وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى ( فاهدوهم إلى صراط مستقيم ) (145).
وهذا قول باطل ورد للنصوص الصحيحة بغير برهان . والواجب حمل النصوص على ظاهرها.
القنطرة بين الجنة والنار
فمن مر على الصراط دخل الجنة . فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض. فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة .

 
الشرح :
7- ذكر الشيخ رحمه الله مما يكون يوم القيامة الوقوف على القنطرة فقال : ( فمن مر على الصراط ) أي تجاوزه وسلم من السقوط في جهنم ( دخل الجنة ) لأن من نجا من النار دخل الجنة قال تعالى : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) (146) وقال تعالى ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) (147) لكن قبل دخول الجنة لا بد من إجراء القصاص بين المؤمنين حتى يدخلوا الجنة وهو على أكمل حالة . قد خلصوا من المظالم وهذا ما أشار إليه الشيخ بقوله ( فإذا عبروا ) أي تجاوزوا الصراط ونجوا من السقوط في النار
 ( وقفوا على قنطرة ) هي الجسر وما ارتفع من البنيان – وهذه القنطرة قيل هي طرف الصراط مما يلي الجنة وقيل هي صراط آخر خاص بالمؤمنين ( فيقتص لبعضهم من بعض ) أي يجري بينهم القصاص في المظالم فيؤخذ للمظلوم حقه ممن ظلمه ( فإذا هذبوا ونقوا ) أي خلصوا من التبعات والحقوق ( أذن لهم في دخول الجنة ) وقد ذهب ما في قلوب بعضهم لبعض من الغل كما قال تعالى : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (148).
أول من يستفتح باب الجنة وأول من يدخلها وشفاعات النبي صلى الله عليه وسلم :
وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى r وأول من يدخلها من الأمم أمته. وله r في القيامة ثلاث شفاعات – أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضي بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء أدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه . وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة – وهاتان الشفاعتان خاصتان له وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها . ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.

 
الشرح :
8- يبين الشيخ رحمه الله ما ينتهي إليه أمر المؤمنين يوم القيامة بعد اجتيازهم لتلك الأحوال التي مر ذكر أهمها فيقول ( فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ) فهم لا يدخلون الجنة إلا بعد إذن من الله تعالى وطلب لفتح أبوابها ( وأول من يستفتح باب الجنة محمد r ) كما في الصحيح (149) عن أنس t قال قال رسول الله r: ( أتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ) والاستفتاح طلب الفتح وفي هذا تشريف له r وإظهار لفضله ( وأول من يدخلها من الأمم أمته ) وذلك لفضلها على سائر الأمم – ودليل ذلك ما في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم من قوله r ( نحن أول من يدخل الجنة ) قوله ( وله r في القيامة ثلاث شفاعات ) الشفاعات جمع شفاعة والشفاعة لغة الوسيلة وعرفا : سؤال الخير للغير . مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر . فكأن الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له بعد أن كان منفردا – وقول الشيخ رحمه الله ( وله r في القيامة ثلاث شفاعات ) بيان للشفاعات التي يقوم بها النبي r في يوم القيامة بإذن الله تعالى . هكذا ذكر الشيخ رحمه الله أنواع الشفاعة هنا مختصرة وهي على سبيل الاستقصاء ثمانية أنواع منها ما هو خاص بالنبي r ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره .
الشفاعة الأولى :الشفاعة العظمى ( وهي المقام المحمود ) وهي أن يشفع النبي r أن يقضي الله سبحانه بين عباده بعد طوال الموقف عليهم وبعد مراجعتهم الأنبياء للقيام بها فيقوم بها نبينا r بعد إذن ربه .
الشفاعة الثانية : شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة بعد الفراغ من الحساب .
الشفاعة الثالثة : شفاعته r في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب وهذه خاصة به – لأن الله أخبر أن الكافرين لا تنفعهم شفاعة الشافعين ونبينا أخبر أن شفاعته لأهل التوحيد خاصة – فشفاعته لعمه أبي طالب خاصة به وخاصة لأبي طالب – هذه الأنواع الثلاثة من الشفاعة خاصة بنبينا r .
الشفاعة الرابعة : شفاعته فيمن استحق النار من عصاة الموحدين أن لا يدخلها .
الشفاعة الخامسة : شفاعته r فيمن دخل النار من عصاة الموحدين أن يخرج منها .
الشفاعة السادسة :شفاعته في رفع درجات بعض أهل الجنة .
الشفاعة السابعة : شفاعته r فيمن استوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة وهو أهل الأعراف على قول.
الشفاعة الثامنة : شفاعته r في دخول بعض المؤمنين الجنة بلا حساب ولا عذاب كشفاعته r في عكاشة بن محصن t حيث دعا له النبي r أن يكون من السبعين الألف الذي يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب . وهذه الأنواع الخمسة الباقية يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذه الشفاعات كلها لثبوت أدلتها وأنها لا تتحقق إلا بشرطين :
الشرط الأول : إذن الله للشافع أن يشفع كما قال تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) الآية (255) البقرة ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) الآية (3) من سورة يونس .
الشرط الثاني : رضا الله عن المشفوع له كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) الآية (28) الأنبياء ويجمع الشرطين قوله تعالى ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا . إلا من بعد يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) الآية (26) النجم وقد خالفت المعتزلة في الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق النار منهم أن لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها ( أي في النوع الخامس والسادس من أنواع الشفاعة )
ويحتجون بقوله تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) الآية (48) المدثر والجواب عنها : ـ أنها واردة في حق الكفار فهم الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين . أما المؤمنين فتنفعهم الشفاعة بشروطها هذا وقد انقسم الناس في أمر الشفاعة إلى ثلاثة أصناف
 
 
الصنف الأول :
غلوا في إثباتها وهو النصارى والمشركون وغلاة الصوفية والقبوريون حيث جعلوا شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعرفة في الدنيا عند الملوك فطلبوها من دون الله كما ذكر الله ذلك عن المشركين
الصنف الثاني :
وهو المعتزلة والخوارج غلوا في نفي الشفاعة فأنكروا شفاعة النبي r وشفاعة غيره في أهل الكبائر.
الصنف الثالث :  
وهم أهل السنة والجماعة أثبتوا الشفاعة على وفق ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية فأثبتوا الشفاعة بشروطها .

إخراج بعض العصاة من النار برحمة الله بغير شفاعة واتساع الجنة
عن أهلها
ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة بل بفضله ورحمته . ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله أقواما فيدخلهم الجنة . وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار. وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء – وفي العلم الموروث عن محمد r من ذلك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده .

 
 
الشرح :
9- لما ذكر الشيخ رحمه الله أن من أنواع الشفاعات التي تقع بإذن الله الشفاعة بإخراج بعض من دخلوا النار منها – ذكر هنا أن الخروج من النار له سبب آخر غير الشفاعة وهو رحمة الله سبحانه وفضله وإحسانه فيخرج من النار من عصاة الموحدين من في قلبه أدنى مثقال حبة من إيمان – قال الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) الآية (48) النساء وفي الحديث المتفق عليه ( يقول الله : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعلموا خيرا قط ) الحديث. وقوله ( ويبقى في الجنة فضل ) أي متسع ( عمن دخلها من أهل الدنيا ) لأن الله وصفها بالسعة فقال : (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) الآية (133) أل عمران ( فينشئ الله ) أي يخلق ويوجد ( أقواما ) أي جماعات ( فيدخلهم الجنة ) بفضله ورحمته لأن الجنة رحمته يرحم بها من يشاء – وأما النار فلا يعذب فيها إلا من قامت عليه حجته وكذب رسله وقوله ( وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة .. الخ ) لما ذكر رحمه الله ما ذكر من أحوال اليوم الآخر وما يجري فيه أحال على الكتاب والسنة في معرفة تفاصيل البقية مما لم يذكره لأن ذلك من علم الغيب الذي لا يعرف إلا من طريق الوحي .
" الإيمان بالقدر وبيان ما تتضمنه "
وتؤمن الفرقة الناجية – أهل السنة والجماعة – بالقدر خيره وشره والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين .

 
الشرح:
القدر : مصدر قَدَرْتُ الشيء إذا أحطت بمقداره . والمراد به هنا تعلق علم الله بالكائنات وإرادته لها أزلا قبل وجودها . فلا حادث إلا وقد قدره الله أي سبق علمه به وتعلقت به إرادته – والإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة – وهو الإيمان بالقدر خيره وشره – وفي قول الشيخ رحمه الله ( وتؤمن الفرقة الناجية – أهل السنة والجماعة – بالقدر خيره وشره ) إشارة إلى أن من لم يؤمن بالقدر فليس من أهل السنة والجماعة وهذا هو مقتضى النصوص كما في حديث جبريل حين سأل النبي r عن الإيمان ( فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) فجعل r الإيمان بالقدر سادس أركان الإيمان فمن أنكره فليس بمؤمن – كما لو لم يؤمن بغيره من أركان الإيمان – وقوله ( والإيمان بالقدرعلى درجتين .. الخ) وذكر الشيخ رحمه الله هنا أن الإيمان بالقدر يشتمل على أربع مراتب هي إجمالا كما يلي :-
الأولى : علم الله الأزلي بكل شئ – ومن ذلك علمه بأعمال العباد قبل أن يعلموها .
الثانية : كتابة ذلك في اللوح المحفوظ .
الثالثة : مشيئته الشاملة وقدرته التامة لكل حادث .
الرابعة : إيجاد الله لكل المخلوقات وأنه الخالق وما سواء مخلوق هذا مجمل مراتب القدر وإليك بيانها بالتفصيل .
تفصيل مراتب القدر
" الدرجة الأولى وما تتضمنه"

فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وأبدا. وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال . ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق . فأول ما خلق الله القلم قال له اكتب . قال : ما أكتب قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه . وما أخطأه لم يكن ليصيبه. جفت الأقلام وطويت الصحف. كما قال تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)(150) وقال (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)(151) وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا . فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء – وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . نحو ذلك – فهذا التقدير قد يكون ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل .  
 
  ف
 
الشرح :
قوله ( أزلا ) الأزل القدم الذي لا بداية له . وقوله ( أبدا ) الأبد هو الدوام في المستقبل الذي لا نهاية له . و(الطاعات ) جمع طاعة وهي موافقة الأمر . و( المعاصي ) جمع معصية وهي مخالفة الأمر
( والأرزاق ) جمع رزق وهو ما ينفع . و(الآجال ) جمع أجل وهو مدة الشئ . وأجل الإنسان نهاية وقته في الدنيا بالموت . و( اللوح المحفوظ ) وهو أم الكتاب ( محفوظ ) من الزيادة والنقصان فيه . ذكر الشيخ هنا ما تتضمنه الدرجة الأولى من درجتي الإيمان بالقدر وأنها تتضمن شيئين أي مرتبتين – والمرتبة الأولى : الإيمان بعلم الله المحيط بكل شئ من الموجودات والمعدومات – هذا العلم الذي هو صفة من صفاته تعالى الذاتية التي لا يزال متصفا بها أزلا وأبدا . ومن ذلك علمه بأعمال الخلق من الطاعات والمعاصي وعلمه بأحوالهم من الأرزاق والآجال وغيرها – المرتبة الثانية : مرتبة الثانية : مرتبة الكتابة – وهي أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق فما يحدث شئ في الكون إلا وقد علمه الله وكتبه قبل حدوثه . ثم استدل الشيخ رحمه الله على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة – فمن أدلة السنة على ذلك الحديث الذي ذكر الشيخ معناه – ولفظه كما رواه أبو داود في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله r يقول ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب. قال وما أكتب. قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) فهذا الحديث يدل على مرتبة الكتابة وأن المقادير كلها مكتوبة. وقوله : ( أول ما خلق الله القلم قال له اكتب ) روي بنصب ( أول ) و( القلم ) على أن الكلام جملة واحدة ومعناه : أنه عند أول خلقه القلم قال له اكتب . وروي برفع ( أول ) و ( القلم ) على أن الكلام جملتان الأولى ( أولُ ما خلق الله القلم ) و ( قال له اكتب ) جملة ثانية فيكون المعنى أن أول المخلوقات من هذا العالم القلم . وقوله ( فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه الخ ) من كلام عبادة بن الصامت راوي الحديث – أي ما يصيب الإنسان مما ينفعه أو يضره فهو مقدر عليه لابد أن يقع به ولا يقع به خلافه . وقوله : ( جفت الأقلام وطويت الصحف ) كناية عن سبق كتابة المقادير والفراغ منها – وهو معنى ما جاء في حديث ابن عباس : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي ثم ذكر الشيخ من أدلة القرآن قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ( ألم تعلم ) الاستفهام للتقرير : أي قد علمت يا محمد وتيقنت ( أن الله يعلم ما في السماء والأرض ) فيه إحاطة علمه بالعالم العلوي والعالم السفلي وهذه مرتبة العلم ( إن ذلك ) أي الذي في السماء والأرض من معلوماته ( في كتاب ) أي مكتوب عنده في أم الكتاب وهذه مرتبة الكتابة ( إن ذلك على الله يسير ) أي أن إحاطة علمه بما في السماء والأرض وكتابته يسير عليه – والشاهد من الآية الكريمة: أن فيها إثبات علم الله بالأشياء وكتابتها في اللوح المحفوظ وهذا ما تتضمنه الدرجة الأولى . واستدل الشيخ أيضا بقوله تعالى : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ) من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار ( ولا في أنفسكم ) بالآلام والأسقام وضيق العيش ( إلا في كتاب ) أي إلا وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ ( من قبل أن نبرأها ) أي قبل أن نخلقها ونوجدها ( إن ذلك على الله يسير ) أي أن إثباتها في الكتاب على كثرتها يسير على الله سبحانه والشاهد من الآية الكريمة : أن فيها دليلا على كتابة الحوادث في اللوح المحفوظ قبل وقوعها. ويتضمن ذلك علمه بها قبل الكتابة فهي دليل على مرتبتي العلم والكتابة – ثم بعد ذلك أشار الشيخ رحمة الله إلى أن التقدير نوعان تقدير عام شامل لكل كائن وهو الذي تقدم الكلام عليه بأدلته وهو المكتوب في اللوح المحفوظ وهو تقدير خاص - وهو تفصيل للقدر العام وهو ثلاثة أنواع : تقدير عُمُري وتقدير حولي وتقدير يومي . وهذا معنى قول الشيخ : ( وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة ) أي تقديرا خاصا مفصلا للتقدير العام وهو :
1- التقدير العمري كما في حديث ابن مسعود في شأن ما يكتب على الجنين في بطن أمه من أربع الكلمات : رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته .
2- تقدير حولي وهو ما يقدر في ليلة القدر من وقائع العام كما في قوله تعالى : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الآية (4) من سورة الدخان .
3- تقدير يومي وهو ما يقدر من حوادث اليوم من حياة وموت وعز وذل إلى غير ذلك . كما في قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الآية (29) من سورة الرحمن وعن ابن عباس عنهما : ( إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاه دفتاه من ياقوته حمراء قلمه نور وكتابته نور عرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فكذلك قوله سبحانه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم . قوله :
( فهذا القدر ) أي الذي سبق بيانه بنوعيه العام والخاص ( قد كان ينكره غلاة القدرية ) أي المبالغون في نفي القدر فينكرون علم الله بالأشياء قبل وجودها وكتابته لها في اللوح المحفوظ وغيره ويقولون إن الله أمر ونهى وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه فالأمر أنف مستأنف لم يسبق في علم الله وتقديره – وهؤلاء كفرهم الأئمة لكنهم انقرضوا ولهذا قال الشيخ ( ومنكروه اليوم قليل ) وبقيت الفرقة التي تقر بالعلم ولكن تنفي دخول أفعال العباد في القدر وتزعم أنها مخلوقة لهم استقلالا لم يخلقها الله ولم يردها . كما يأتي بيانه .
الدرجة الثانية وما تتضمنه
وأما الدرجة الثانية فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه. لا يكون في ملكه ما لا يريد. وأنه سبحانه على كل شئ قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه.
الشــرح :
هذا بيان للمرتبة الثالثة والمرتبة الرابعة من مراتب القدر، أشار إلى الثالثة بقوله: (فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة) والنافذة هي الماضية التي لا راد لها ـ والشاملة هي العامة لكل شئ من الموجودات والمعدومات . وقوله (وهو الإيمان) أي ومعنى الإيمان بهذه المرتبة اعتقاد : (أن ما شاء الله كان) أي وجد (وما لو يشأ لم يكن) أي لم يوجد (وأنه ما في السموات من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله) أي لا يحصل شئ من ذلك إلا وقد شاءه الله سبحانه (لا يكون في ملكه ما لا يريد) وقوعه كونا وقدرا (وأنه سبحانه على كل شئ قدير من الموجودات والمعدومات) لدخولها تحت عموم (كل شئ) فالله قد أخبر في أخبر في آيات كثيرة أنه على كل شئ قدير وقوله : (فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه) هذا فيه إشارة إلى المرتبة الرابعة وهي مرتبة الخلق والإيجاد فكل ما سوى الله فهو مخلوق وكل الأفعال خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه لها (لا خالق غيره ولا رب سواه) ولما فرغ الشيخ من ذكر مراتب القدر نبه على مسائل تتعلق بهذا الموضوع.
المسألة الأولى : أنه لا تعارض بين القدر والشرع.
المسألة الثانية : لا تعارض بين تقدير الله وقوع المعاصي وبغضه لها.
المسألة الثالثة : لا تعارض بين تقدير الله لأفعال العباد وكونهم يفعلونها باختيارهم.
1 ،2 لا تعارض بين القدر والشرع ولا بين تقديره للمعاصي وبغضه لها
ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين. ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين. ولا يرضى عن القوم الفاسقين. ولا يأمر بالفحشاء. ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد.
الشــرح :
لما قرر الشيخ رحمه الله القدر بمراتبه الأربع : العلم والكتابة والمشيئة والإرادة والخلق والإيجاد، وأنه ما من شئ يحدث إلا وقد علمه الله وكتبه وشاءه وأراده وأوجده بَيَّن هنا أنه لا تعارض بين ذلك وبين كونه أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته ولا بين تقديره وقوع المعصية وبغضه لها ، فقوله: (ومع ذلك) أي مع كونه سبحانه هو الذي علم الأشياء وقدرها وكتبها وأرادها وأوجدها (فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته) كما دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة أمر فيها بالطاعة ونهى عن المعصية ولا تعارض في ذلك بين شرعه وقدره كما يظنه بعض الضلال الذين يعارضون بين الشرع والقدر.
يقول الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع في رسالته التدمرية: وأهل الضلال انقسموا إلى ثلاث فرق مجوسية ومشركية وإبليسية، فالمجوسية: الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم ـ والفرقة الثانية المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكروا الأمر والنهي قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ) الآية(148) الأنعام فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي فهو من هؤلاء، والفرقة الثالثة وهو الابليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا تناقضا من الرب سبحانه وتعالى وطعنوا في حكمته وعدله ـ كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم.
والمقصود أن هذا مما تَقَوَّله أهل الضلال ـ أما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شئ قدير، وأحاط بكل شئ علما، وكل شئ أحصاه في إمام مبين ا هـ
وقوله: (وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين) أي يحب من اتصف بالصفات الحميدة كالتقوى والإحسان والقسط (ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) كما أخبر بذلك في آيات كثيرة لما اتصفوا به من الإيمان والعمل الصالح (ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين) أي لا يرضى عمن اتصف بالصفات التي يبغضها كالكفر والفسوق وسائر الصفات الذميمة (ولا يأمر بالفحشاء) وهي ما تناهى قبحه من الأقوال والأفعال (ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد) لقبحهما ولما فيهما من المضرة على العباد والبلاد ويريد الشيخ رحمه الله بهذا الكلام الرد على من زعم أن الإرادة والمحبة بينهما تلازم فإذا أراد الله شيئا فقد أحبه، وإذا شاء شيئاً فقد أحبه.وهذا قول باطل والقول الحق أنه لا تلازم بين الإرادة والمحبة أو المشيئة والمحبة ـ أعني الإرادة الكونيةـ فقد يشاء الله ما لا يحبه، وقد يحب ما لا يشاء وجوده ـ مثال الأول مشيئته وجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لما في الكون مع بغضه لبعضه ـ ومثال الثاني محبته لإيمان الكفار وطاعات الكفار ولم يشأ وجود ذلك منهم ولو شاءه لوجد.
3- لا تنافى بين إثبات القدر وإسناد أفعال العباد إليهم حقيقة وأنهم يفعلونها باختيارهم
والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم ـ كما قال تعالى: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(152)
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي r مجوس هذه الأمة، ويغلوا فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها.
الشــرح:
أراد الشيخ رحمه الله بهذا الكلام أن يبين أنه لا تنافي بين إثبات القدر بجميع مراتبه السابقة وبين كون العباد يفعلون باختيارهم ويعملون بإرادتهم وقصده بهذا الرد على من زعم أن إثبات ذلك يلزم منه التناقض ومن ثم ذهبت طائفة منهم إلى الغلو في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، وذهبت الطائفة الثانية إلى الغلو في إثبات العباد واختيارهم حتى جعلوهم هم الخالقين لها ولا تعلق لها بمشيئة الله ولا تدخل تحت قدرته، ويقال للطائفة الأولى الجبرية لأنهم يقولون إن العبد مجبر على ما يصدر منه لا اختيار له فيه ـ ويقال للطائفة الثانية القدرية النفاة لأنهم ينفون القدر فقول الشيخ رحمه الله: (والعباد فاعلون حقيقة) رد على الطائفة الأولى وهم الجبرية لأنهم يقولون إن العباد ليسوا فاعلين حقيقة وإسناد الأفعال إليهم من باب المجاز، وقوله: (والله خالقهم وخالق أفعالهم) رد على الطائفة الثانية القدرية النفاة لأنهم يقولون إن الله لم يخلق أفعال العباد وإنما هم خلقوها استقلالا دون مشيئة الله وتقديره لها.
وقوله: (والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة) رد على الجبرية ـ أي ليس العباد مجبرين على تلك الأعمال لأنه لو كان كذلك لما صح وصفهم بها لأن فعل المجبر لا ينسب إليه ولا يوصف به ولا يستحق عليه الثواب أو العقاب، وقوله: (والله خالقهم وخالق قدرتهم) رد على القدرية النفاة حيث زعموا أن العباد يخلقون أفعالهم بدون إرادة الله ومشيئته كما سبق، ثم استدل الشيخ في الرد على الطائفتين بقوله تعالى: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فقوله تعالى : (لمن شاء منكم أن يستقيم) فيه الرد على الجبرية لأنه أثبت للعباد مشيئة وهم يقولون لا مشيئة لهم، وقوله:( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) فيه الرد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله وهذا باطل لأن الله علق مشيئة العباد على مشيئته سبحانه وربطها بها، وقوله: (وهذه الدرجة من القدر) وهي عموم مشيئته وإرادته لكل شئ وعموم خلقه لكل شئ، وأن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم (يكذب بها عامة القدرية) النفاة حيث يزعمون أن العبد يخلق نفسه بدون مشيئة الله وإرادته (الذين سماهم النبي r مجوس هذه الأمة) لمشابهتهم المجوس الذين يثبتون خالقين هما النور والظلمة فيقولون إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثانوية، وكذلك هم القدرية جعلوا خالقاً مع الله حيث زعموا أن العباد يخلقون أفعالهم بدون إرادة الله ومشيئته بل يستقلون بخلقها ولم يثبت أن النبي r سماهم مجوس هذه الأمة لتأخر ظهورهم عن وقت النبي r فأكثر ما يجئ من ذمهم إنما هو موقوف على الصحابة وقوله: (ويغلو فيها) أي هذه الدرجة من القدر، والغلو في الزيادة في الشئ عن الحد المطلوب (قوم من أهل الإثبات) فاعل يغلو والمراد بهم الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على فعله (حتى سلبوا العبد قدرته واختياره) فالأولون غلوا في إثبات أفعال العباد حتى أخرجوها عن مشيئة الله وهؤلاء غلوا في نفي أفعال العباد حتى سلبوهم القدرة والاختيار، وقوله: (ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها) جمع حكمة ومصلحة أي أن الجبرية في مذهبهم هذا حينما نفوا أفعال العباد وسلبوهم القدرة والاختيار نفوا حكمة الله في أمره ونهيه وثوابه وعقابه فقالوا إنه يثيب أو يعاقب العباد على ما ليس من فعلهم ويأمرهم بما لا يقدرون عليه فاتهموا الله بالظلم والعبث تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة
فصـــل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح.وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي. كما قال سبحانه في آية القصاص: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)(153) وقال: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(154).ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة)(155) وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) وقوله r : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)(157) ونقول هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطي الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم. 
الشــرح :
قوله: (ومن أصول أهل السنة والجماعة) أي القواعد التي بنيت عليها عقيدتهم (أن الدين) هو لغة الذل والانقياد، وشرعا هو ما أمر الله به (والإيمان) لغة: التصديق وشرعا هو ما ذكره الشيخ بقوله: (قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح) هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة: أنه قول وعمل ـ فالقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نية وإخلاص، وعمل الجوارح ـ أي الأعضاء ـ كالصلاة والحج والجهاد، والفرق بين أقوال القلب وأعماله: أن أقواله هي العقائد التي يعترف بها ويعتقدها وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله وهي محبة الخير وإرادته الجازمة وكراهية الشر والعزم على تركه، وأعمال القلب تنشأ عنها أعمال الجوارح وأقوال اللسان، ومن ثم صارت أقوال اللسان وأعمال الجوارح من الإيمان.
أقوال الناس في تعريف الإيمان:
1.  عند أهل السنة والجماعة: أنه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
2.  عند المرجئة: انه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان فقط.
3.  عند الكرامية: انه نطق باللسان فقط.
4.  عند الجبرية: انه الاعتراف بالقلب أو مجرد المعرفة في القلب.
5.  عند المعتزلة: أنه اعتقاد القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح.
والفرق بينهم وبين أهل السنة أن مرتكب الكبيرة يسلب اسم الإيمان بالكلية ويخلد في النار عندهم، وعند أهل السنة لا يسلب الإيمان بالكلية بل هو مؤمن ناقص الإيمان ولا يخلد في النار إذا دخلها، وكل هذه أقوال باطلة والحق ما قاله أهل السنة والجماعة لأدلة كثيرة.
وقوله: (وإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) أي ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يتفاضل بالزيادة والنقصان فتزيده الطاعة وينقص بالمعصية، ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً{ الآية (2) الأنفال وقوله تعالى: } لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ { الآية (4) الفتح، وغير ذلك من الأدلة، وقوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج) أي وأهل السنة والجماعة مع أنهم يرون أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية هم مع ذلك لا يحكمون بالكفر على من يدعى الإسلام ويتقبل الكعبة بمطلق ارتكابه المعاصي التي هي دون الشرك والكفر (كما يفعله الخوارج) حيث قالوا من فعل كبيرة فهو في الدنيا كافر وفي الآخرة مخلد في النار لا يخرج منها ـ فأهل السنة يرون (أن الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي) فالعاصي أخ لنا في الإيمان واستدل الشيخ على ذلك بقوله تعالى في آية القصاص: } فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ{المعنى أن الجاني إذا عفى عنه المجني عليه أو وليه عن القصاص ورضي بأخذ المال في الدية فعلى مستحق المال أن يطلبه بالمعروف من غير عنف وعلى من عليه المال أن يؤديه إليه من غير مماطلة، ووجه الاستدلال من الآية : أنه سمى القاتل أخا للمقتول مع أن القتل كبيرة من كبائر الذنوب ومع هذا لم تزل معه الأخوة الإيمانية، واستدل الشيخ أيضاً بقوله تعالى } وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا { الآيتين ووجه الاستدلال من الآيتين الكريمتين أنه سماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال والبغي بينهم وسماهم إخوة للمؤمنين بقوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ومعنى الآية إجمالاً : انه إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا في الصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه فإن رجعت تلك الطائفة عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال:
} وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ أي اعدلوا إن الله يحب العادلين ـ وقوله تعالى } إنما المؤمنون إخوة{ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإصلاح ـ والمعنى أنهم يرجعون إلى أمر واحد هو الإيمان فهم إخوة في الدين } فأصلحوا بين أخويكم { يعني كل مسلمين تخاصما وتقاتلا ـ } واتقوا الله { في كل أموركم } لعلكم ترحمون { بسبب التقوى.
وقوله: (ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة) أي ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم (لا يسلبون) أي لا ينفون عن (الفاسق) الفسق هو الخروج عن طاعة الله والمراد بالفاسق هنا الذي يرتكب بعض الكبائر مثل شرب الخمر والزنا والسرقة مع اعتقاد حرمة (الملي) أي الذي على ملة الإسلام ولم يرتكب من الذنوب ما يوجب كفره فأهل السنة والجماعة لا يسلبونه الإسلام بالكلية فيحكمون عليه بالكفر كما تقوله الخوارج في الدنيا (ولا يخلدونه في النار) أي يحكمون عليه بالخلود في النار في الآخرة وعدم خروجه منها إذا دخلها (كما تقوله المعتزلة) والخوارج فالمعتزلة يرون أن الفاسق لا يسمى مسلماً ولا كافراً ـ بل هو عندهم بالمنزلة بين المنزلتين ـ هذا حكمه عندهم في الدنيا ـ وأم حكمه عندهم في الآخرة فهو مخلد في النار ـ والأدلة على بطلان هذا المذهب كثيرة ـ وقد مر بعضها ـ وسيأتي ذكر بقيتها، ثم بين الشيخ رحمه الله الحكم الصحيح الذي ينطبق على الفاسق الملي مؤيداً بأدلته من الكتاب والسنة فقال: (بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق) أي مطلق الإيمان الذي يدخل فيه الإيمان الكامل والإيمان الناقص كما في قوله: (فتحرير رقبة مؤمنة) فإن من أعتق رقبة مؤمنة وإن كان المعتق فاسقا فيما يشترط فيه إيمان الرقبة المعتقة ككفارة الظهار والقتل ـ أجزأه ذلك العتق باتفاق العلماء لأن ذلك يدخل في عموم الآية وإن لم يكن المعتق من أهل الإيمان الكامل، وقوله: (وقد لا يدخل) ، أي الفاسق الملي (في اسم الإيمان المطلق) أي إذا أريد بالإيمان الإيمان الكامل كما في قوله تعالى } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ { الآية لأن المراد بالإيمان المذكور في الآية الكريمة الإيمان الكامل فلا يدخل فيه الفاسق لأن إيمانه ناقص، ولنرجع إلى تفسير الآية الكريمة: (إنما) أداة حصر تثبت الحكم للمذكور وتنفيه عما سواه (المؤمنون) أي الإيمان الكامل (إذا ذكر الله) أي ذكرت عظمته وقدرته وما خوف به من عصاه (وجلت قلوبهم) أي خافت (وإذا تليت عليهم آياته) أي قرئت آياته المنزلة أو ذكرت آياته الكونية (زادتهم إيمانا) أي زاد إيمانهم بسبب ذلك (وعلى ربهم يتوكلون) أي يفوضون جميع أمورهم إليه لا إلى غيره، ثم ذكر الشيخ دليلا من السنة على أن الفاسق الملي لا يدخل في اسم الإيمان الكامل وهو قوله r (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن الخ) أي كامل الإيمان فالمنفي هنا عن الزاني والسارق والشارب هو كمال الإيمان لا جميع الإيمان بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر، فقد دل الحديث على أن هؤلاء حين فعلهم المعصية قد انتفى الإيمان الكامل عنهم وقد دلت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة على أنهم غير مرتدين بذلك فعلم أن الإيمان المنفي في هذا الحديث إنما هو كمال الإيمان الواجب وقوله : ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف الخ ) النهبة بضم النون هي الشئ المنهوب – والنهب أخذ المال بالغلبة والقهر ( ذات شرف ) أي قدر – وقيل ذات استشراف يستشرف الناس إليها ناظرين إليها رافعين أبصارهم . ثم إن الشيخ رحمه الله ذكر النتيجة للبحث السابق واستخلص الحكم بقوله في حق الفاسق الملي : ( ونقول : هو مؤمن ناقص الإيمان ) أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ) وهذا هو الحكم العادل جمعا بين النصوص التي نفت الإيمان عنه كحديث:( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). والنصوص التي أثبتت الإيمان له – كأية القصاص وآية حكم البغاة السابقتين وبناء على ذلك ( فلا يعطي الاسم المطلق ) أي اسم الإيمان الكامل ( ولا يسلب مطلق الاسم) أي الإيمان الناقص. فيحكم عليه بالخروج من الإيمان كما تقوله المعتزلة والخوارج. والله أعلم فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل . ومطلق الإيمان هو الإيمان الناقص .
الواجب نحو أصحاب رسول الله r وذكر فضائلهم
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله r كما وصفهم الله به في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)(158) وطاعة الرسول r في قوله . ( لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )(159) 

 
 
الشرح:
أي من أصول عقيدة أهل السنة الجماعة ( سلامة قلوبهم ) من الغل والحقد والبغض وسلامة ( ألسنتهم ) من الطعن واللعن والسب ( لأصحاب رسول الله r ) لفضلهم وسبقهم واختصاصهم بصحبة النبي r ولما لهم من الفضل على جميع الآمة لأنهم الذين تحملوا الشريعة عنه r وبلغوها لمن بعدهم ولجهادهم من الرسول r ومناصرتهم له . وغرض الشيخ من عقد هذا الفصل الرد على الرافضة والخوارج الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم ويجحدون فضائلهم . وبيان براءة أهل السنة والجماعة من هذا المذهب الخبيث. وأنهم مع صحابة نبيهم كما وصفهم الله بقوله : ( والذين جاءوا من بعدهم ) أي بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة من عموم المسلمين ( يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) المراد هنا أخوة الدين – فهم يستغفرون لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار ( ولا تجعل في قلوبنا غلا ) أي غشا وبغضا وحسدا ( للذين آمنوا ) أي لأهل الإيمان ويدخل في ذلك الصحابة دخولا أوليا لكونهم أشرف المؤمنين ولكون السياق فيهم قال الإمام الشوكاني : فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمر الله به في هذه الآية . فإن وجد في قلبه غلا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه r وانفتح له باب من الخذلان ما يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة . فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه . وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلى بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه اهـ
والشاهد من الآية الكريمة: أن فيها فضل الصحابة لسبقهم بالإيمان وفضل أهل السنة الذين يتولونهم وذم الذين يعادونهم. وفيها مشروعية الاستغفار للصحابة والترضي عنهم . وفيها سلامة قلوب أهل السنة وألسنتهم لأصحاب رسول الله r . ففي قولهم : ( ربنا اغفر لنا ) الخ سلامة الألسنة . وفي قولهم : ( ولا تجعل في قلوبنا غلا الذين آمنوا ) سلامة القلوب . وفي الآية تحريم سبهم وبغضهم وأنه ليس من فعل المسلمين . وأن من فعل ذلك لا يستحق من الفيء شيئا. وقوله ( وطاعة النبي r في قوله ) أي أن أهل السنة يطيعون النبي r في سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحابه والكف عن سبهم وتنقصهم حيث نهاهم النبي r عن ذلك بقوله:( لا تسبوا أصحابي) أي لا تنتقصوا ولا تشتموا (أصحابي) جمع صاحب. ويقال لمن صاحب النبي r صحابي – وهو من لقى النبي r مؤمنا به ومات على ذلك .
( فو الذي نفسه بيده) هذا قسم من النبي r يريد به تأكيد ما بعده ( لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ) جواب الشرط وأحد جبل معروف في المدينة سمى بذلك لتوحده عن الجبال وذهبا منصوب على التمييز ( ما بلغ مد أحدهم ) المد مكيال وهو ربع الصاع النبوي ( ولا نصيفه ) لغة من النصف كما يقال : ثمين بمعنى الثمن . والمعنى أن الإنفاق الكثير في سبيل الله من غير الصحابة رضي الله عنهم لا يعادل الإنفاق القليل من الصحابة وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إليه لا يمكن أن يحصل لأحد مثله ممن بعدهم . والشاهد من الحديث : أن فيه تحريم سب الصحابة , وبيان فضلهم على غيرهم . وأن العمل يتفاضل بحسب نية صاحبه وبحسب الوقت الذي أدى فيه. والله أعلم وفي الحديث أن من أحب الصحابة وأثنى عليهم فقد أطاع الرسول r ومن سبهم وأبغضهم فقد عصى الرسول r .
فضل الصحابة وموقف أهل السنة والجماعة منه وبيان تفاضلهم
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم. ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل . ويفضلون المهاجرين على الأنصار . ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي r . بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه . وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله r كالعشرة وثابت بن قيس ابن شماس وغيرهم من الصحابة. ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم . كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي وقدم قوم عليا وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي .

  
 
 
 
الشرح :
بين الشيخ رحمه الله في هذا المقطع من كلامه تفاضل الصحابة بعد أن بين فيما سبق فضلهم عموما وموقف أهل السنة والجماعة من ذلك. فقوله : ( ويقبلون ) أي أهل السنة والجماعة ( ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع ) أي إجماع المسلمين ( من فضائلهم ومراتبهم ) وكفى بهذه المصادر الثلاثة شاهدا على فضلهم – ثم إنهم ليسوا على درجة واحدة في الفضل بل بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة وبحسب ما قاموا به من أعمال تجاه نبيهم ودينهم رضي الله عنهم ولذلك قال الشيخ رحمه الله ( ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية ) لأن الله سماه فتحا بقوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) الآية (1) الفتح وذلك هو المشهور أن المراد بالفتح صلح الحديبية لأن سورة الفتح نزلت عقيبه .
والحديبية: بئر قرب مكة وقعت عنده البيعة تحت شجرة كانت هناك حينما صد المشركون رسول الله r وأصحابه عن دخول مكة فبايعوه على الموت . وسميت هذه البيعة فتحا لما حصل بسببها من الخير والنصر للمسلمين . والدليل على تفضيل هؤلاء قوله تعالى : (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ) الآية ( 10) الحديد وهؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار قال الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) الآية (100) التوبة الآية قال : ( ويقدمون المهاجرين على الأنصار ) المهاجرون جمع مهاجر والمراد بهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة – والهجرة لغة : الترك – وشرعا : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام – والأنصار – أي الذين ناصروا الرسول r وهم الأوس والخزرج سماهم النبي r بهذا الاسم والدليل على تفضيل المهاجرين على الأنصار أن الله قدمهم في الذكر كما قال تعالى :( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) وقال تعالى :( لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) الآية (117) التوبة وقال تعالى:( ل ِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) الآية . الآيتان (8-9) الحشر فدلت هذه الآيات الكريمة على فضل المهاجرين والأنصار وعلى تقديم المهاجرين على الأنصار في الفضل لتقديمهم في الذكر ولما قاموا به من ترك بلادهم وأموالهم وأولادهم طلبا للأجر ونصرة لله ولرسوله وصدقهم في ذلك رضي الله عنهم – قال : ( ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) كما جاء في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة : وبدر : قرية مشهورة على نحو أربع مراحل من المدينة حصلت عندها الوقعة التي أعز الله بها الإسلام وسمي يوم بدر يوم الفرقان .
وقوله : ( وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ) هكذا ورد عددهم في صحيح البخاري وقوله : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) قال ابن القيم في الفوائد : أشكل على كثير من الناس معناه ثم ذكر الأقوال في ذلك – ثم قال : فالذي نظن في ذلك والله أعلم أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام وأنهم قد يقارفون ما يقارفه غيرهم من الذنوب ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحوا أثر ذلك . ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأنه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم كما لا يقتضي أن يعطلوا الفرائض وثوقا بالمغفرة.فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة ولا حج ولا زكاة ولا جهاد وهذا محال انتهى . قال : ( وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي r . بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ) هذا الكلام في شأن أهل بيعة الرضوان وهي البيعة التي حصلت في الحديبية حين صد المشركون رسول الله r عن دخول مكة كما سبق بيانه قريباً – وقد ذكر لهم الشيخ مزيتين :
الأولى :  أنه لا يدخل النار أحد منهم ودليل ذلك ما في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي r قال : ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة )
الثانية :  أن الله قد رضي عنهم . وهذا صريح القرآن كما في قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الآية (18) الفتح وقوله : ( وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ) هذا بناء على الصحيح في عددهم . والله أعلم .
وقوله : ( ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله r كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة ) أي يشهد أهل السنة والجماعة بالجنة لمن شهد له الرسول بذلك – أما من لم يشهد له الرسول r بالجنة فلا يشهدون له لأن في هذا تقولا على الله – لكن يرجون للمحسنين ويخافون على المسيئين وهذا أصل من أصول العقيدة – وقوله : ( كالعشرة ) هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم وقد صحت الأحاديث بالشهادة لهؤلاء بالجنة وقوله : ( وثابت بن قيس بن شماس ) وهو خطيب رسول الله r وبشارته بالجنة ثابتة في صحيح البخاري عن النبي r . وقوله : ( وغيرهم من الصحابة) أي غير من ذكر ممن أخبر النبي r أنهم في الجنة كعكاشة بن محصن وعبد الله بن سلام وغيرهما .
قوله: ( ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t وغيره ) أي يعترف أهل السنة والجماعة ويعتقدون ( ما تواتر به النقل ) أي ما ثبت بطريق التواتر ( والتواتر هو أقوى الأسانيد ) – ( عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t وغيره ) من الصحابة ( أن خير هذه الآمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ) أي يجعلونه الثالث في الترتيب ( ويربعون بعلي ) أي يجعلونه الرابع ( رضي الله عنهم ) وفي هذه الرواية المتواترة عن علي رد على الرافضة الذين يفضلون عليا على أبي بكر وعمر ويقدمونه عليهما في الخلافة فيطعنون في الخلافة الشيخين . وهذا البحث يتضمن مسألتين الأولى مسألة الخلافة – الثانية مسألة التفضيل – فأما مسألة الخلافة فقد أجمع أهل السنة والجماعة بما فيهم الصحابة رضي الله عنهم على أن الخليفة بعد رسول الله r أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي . وأما مسألة التفضيل فقد أجمعوا على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر – كما تواتر به النقل عن علي. واختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما أيهما أفضل وقد ذكر الشيخ هنا في المسألة ثلاثة أقوال حيث يقول : ( فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي . وقدم قوم عليا وقوم توقفوا ) هذا حاصل الخلاف في المسألة: تقديم عثمان. تقديم علي – التوقف عن تقديم أحدهما على الآخر – وأشار الشيخ إلى ترجيح الرأي الأول وهو تقديم عثمان لأمور : الأمر الأول أن هذا الذي دلت عليه الآثار الواردة في مناقب عثمان t - الثاني إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة وماذاك إلا أنه أفضل فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة .
الثالث : أنه استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي كما سبق أنهم قدموه في البيعة – قال عبد الرحمن بن عوف لعلي رضي الله عنه إني نظرت أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان : قال أبو أيوب : من لم يقدم عثمان على علي فقد أزري بالمهاجرين والأنصار فهذا دليل على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختبارهم بعد تشاورهم وكان علي t من جملة من بايعه وكان يقيم الحدود بين يديه .
حكم تقديم علي رضي الله عنه على غيره من الخلفاء الأربعة
وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة – لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة. وذلك لأنهكم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله r أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي . ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ..

 
الشرح :
أبدى الشيخ رحمه الله موازنة بين المسألتين – مسألة تقديم علي على عثمان في الفضل – مسألة تقديم علي على غيره في الخلافة من حيث ما يترتب على ذلك التقديم من خطورة. فبين أن مسألة تفضيل علي على عثمان لا يضلل – أي لا يحكم بضلال من قال بها نظرا لوجود الخلاف فيها بين أهل السنة – وإن كان الراجح تفضيل عثمان t ( لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة ) أي يحكم بضلال من خالف فيها فرأى تقديم علي في الخلافة على عثمان أو غيره من الخلفاء الذين سبقوه – أو قدم عليا على أبي بكر وعمر في الفضيلة – فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله r أبو بكر الصديق رضي الله عنه لفضله وسابقته وتقديم النبي r له جميع الصحابة وإجماع الصحابة على بيعته . ثم الخليفة من بعد أبي بكر عمر بن الخطاب t لفضله وسابقته وعهد أبي بكر إليه واتفاق الأمة عليه بعد أبي بكر – ثم الخليفة بعد عمر عثمان بن عفان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له واتفاق الأمة عليه . ثم بعد عثمان الخليفة علي t لفضله وإجماع أهل عصره عليه . فهؤلاء هم الخلفاء الأربعة المشار إليهم في حديث العرباض بن سارية t بقوله r : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) ولهذا قال الشيخ : ( من طعن في خلافة أحد من هؤلاء ) يعنى الأربعة المذكورين ( فهو أضل من حمار أهله ) لمخالفته النص . والإجماع من غير حجة ولا برهان وذلك كالرافضة الذين يزعمون أن الخلافة بعد النبي r لعلي بن أبي طالب والحاصل في مسألة تقديم علي t على غيره من الخلفاء الثلاثة :
1- من قدمه في الخلافة فهو ضال بالاتفاق .
2- من قدمه في الفضيلة على أبي بكر وعمر فهو ضال أيضا ومن قدمه على عثمان في الفضيلة فلا يضلل وإن كان هذا خلاف الراجح.
" مكانه أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة والجماعة "
ويحبون أهل بيت رسول الله r ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله r حيث قال يوم غدير خم " أذكركم الله في أهل بيتي " (160) وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال : ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) (161) وقال ( إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ) (162) .

 
 
 
الشــرح :
بين الشيخ رحمه الله في هذا مكانة أهل البيت عند أهل السنة والجماعة وأنهم ( يحبون أهل بيت رسول الله r ) وأهل البيت هم آل النبي r الذين حرمت عليهم الصدقة وهم آل علي وأل جعفر وآل عقيل وآل العباس وبنوا الحارث ابن عبد المطلب – وأزواج النبي r وبناته من أهل بيته كما قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (الآية 33) الأحزاب فأهل السنة يحبونهم ويحترمونهم ويكرمونهم لأن ذلك من احترام النبي r وإكرامه ولأن الله ورسوله قد أمرا بذلك قال تعالى : (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) الآية (23) الشورى وجاءت نصوص من السنة بذلك منها ما ذكره الشيخ – وذلك إذا كانوا متبعين للسنة مستقيمين على الملة كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وبنيه – أما من خالف السنة ولم يستقم على الدين فإنه لا تجوز محبته ولو كان من أهل البيت . وقوله : ( ويتولونهم ) أي يحبونهم من الولاية بفتح الواو وهي المحبة . وقوله ( ويحفظون فيهم وصية رسول الله r ) أي يعلمون بها ويطبقونها ( حيث قال يوم غدير خم ) الغدير هنا هو مجمع السيل ( وخم ) قيل اسم رجل نسب الغدير إليه . وقيل هو الفيظة أي الشجر الملتف نسب هذا الغدير إليها لأنه واقع فيها – وهذا الغدير كان في طريق المدينة مر به r في عودته من حجة الوداع وخطب فيه فكان من خطبته ما ذكره الشيخ ( أذكركم الله في أهل بيتي) أي أذكركم ما أمر الله به في حق أهل بيتي من احترامهم وإكرامهم والقيام بحقهم .
وقال أيضا : ( للعباس عمه ) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ( وقد اشتكى إليه ) أي أخبره بما يكره ( أن بعض قريش يجفو ) الجفاء ترك البر والصلة ( فقال ) أي النبي r : ( والذي نفسي بيده ) هذا قسم منه r ( لا يؤمنون ) أي الإيمان الكامل والواجب ( حتى يحبونكم لله ولقرابتي ) أي لأمرين – الأول التقرب إلى الله بذلك لأنهمك من أوليائه .
الثاني : لكونهم قرابة رسول الله r وفي ذلك إرضاء له وإكرام له . ( قال ) النبي r مبينا فضل بني هاشم الذين هم قرابته : ( إن الله اصطفى ) أي اختار . والصفوة. الخيار ( بني إسماعيل ) بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ( واصطفى من بني إسماعيل كنانة ) اسم قبيلة أبوهم كنانة ابن خزيمة ( واصطفى من كنانة قريشا ) وهم أولاد مضر بن كنانة ( واصطفى من قريش بني هاشم ) وهو بنو هاشم بن عبد مناف (واصطفاني من بني هاشم) فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بم مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان . والشاهد من الحديث : أن فيه دليلا على فضل العرب وأن قريشا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن الرسول r أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسا وأفضلهم نسبا – وفيه فضل بني هاشم الذين هم قرابة الرسول r .
" مكانة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة والجماعة "
ويتولون أزواج النبي r أمهات المؤمنين . ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصا خديجة رض الله عنها أم أكثر أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية . والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي r : ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على السائر الطعام )(163).

 
 
الشرح :
ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الجملة عقيدة أهل السنة والجماعة في أزواج النبي r فقال :
( ويتولون أزواج رسول الله r ) أي يحبونهن ويوقرونهن لأنهن ( أمهات المؤمنين ) في الاحترام والتوقير وتحريم نكاحهن على الأمة – أما بقية الأحكام فحكمهن حكم الأجنبيات من حيث تحريم الخلوة بهن والنظر إليهن – قال الله تعالى الآية (6) الأحزاب : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً) الآية (53) الأحزاب وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ) الآية (53) الأحزاب فهن أمهات المؤمنين في الاحترام والتحريم ولا في المحرمية وقد توفى r عن تسع وهن : ( عائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وصفية وميمونة وأم حبيبة وسودة وجويرية ) وأما خديجة فقد تزوجها قبل النبوة ولم يتزوج عليها حتى ماتت . وتزوج r زينب بنت خزيمة الهلالية ولم تلبث ألا يسيرا ثم توفيت هؤلاء جملة من دخل بهن من النساء وهن إحدى عشرة رضي الله عنهن . ( ويؤمنون ) أي أهل السنة والجماعة ( بأنهن أزواجه في الآخرة) وفي هذا شرف لهن وفضيلة جليلة (خصوصاً خديجة رضي الله عنها) فلها من المزايا والفضائل الشيء الكثير وقد ذكر الشيخ منها :
1- أنها أم أكثر أولاده – فكل أولاده منها ما عدا إبراهيم فمن مارية القبطية .
2- أنها أول من آمن به – مطلقا على قول وهو الذي ذكر الشيخ هنا – أو هي أول من آمن به من النساء على القول الآخر.
3- هي أول من عاضده وأعانه في أول أمره وكانت نصرتها له في أعظم أوقات الحاجة.
4- أنها كان لها منه r المنزلة العالية فكان يحبها ويذكرها كثيرا ويثني عليها .
( والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها ) يعني عائشة بنت أبي بكر – والصديق هو المبالغ في الصدق – وقد لقب النبي r أبا بكر بذلك – ولعائشة رضي الله عنها فضائل كثيرة منها : أنها أحب أزواج النبي r إليه – وأنه لم يتزوج بكرا غيرها . وأنه r كان ينزل أكابر عليه الوحي في لحافها. وأن الله برأها مما رماها به أهل الإفك وأنها أفقه نسائه وكان أكابر الصحابة إذا أشكل عليهم الأمر استفتوها . وأن الرسول r توفي في بيتها بين سحرها ونحرها ودفن في بيتها إلى غير ذلك من فضائلها – وقد ذكر الشيخ من فضائلها هنا : ( إن النبي r قال فيها : فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه : ( خبز ولحم ) والخبز من البر وهو أفضل الأقوات واللحم أفضل الإدام فإذا كان اللحم سيد الادام والبرسيد القوت ومجموعها الثريد كان الثريد أفضل الطعام .
" تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله المبتدعة في حق الصحابة وأهل البيت "
ويتبرأون من طريقه الروافض الذين يبغضون الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل . ويمسكون عما شجر بين الصحابة . ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب . ومنه ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه . والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره . بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة . ولهم من السوابق والفضائل ما يجوب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى أنهم يغفر لهم من السيئات مالا يغفر لمن بعدهم . لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم . وقد ثبت بقول رسول الله r أنهم خير القرون . وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا من بعدهم. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه. أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد r وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته . أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا لهم أجر واحد والخطأ مغفور . ثم القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح . ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله. 

 
 
 
الشــرح :
بين الشيخ رحمه الله في هذا :
أولا : موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة وأهل البيت وأنه موقف الاعتدال والوسط بيت الإفراط والتفريط والغلو والجفاء يتولون جميع المؤمنين لاسيما السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويتولون أهل البيت . يعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ( ويتبرأون من طريقة الروافض ) الذين يسبون الصحابة ويطعنون فيهم . ويغلون في حق علي بن أبي طالب وأهل البيت . ( ومن طريقة النواصب ) الذين ينصبون العداوة لأهل البيت ويكفرونهم ويطعنون فيهم وقد سبق بيان مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة وأهل البيت ولكن الغرض من ذكره هنا مقارنته بالمذاهب المنحرفة المخالفة له .
ثانيا : بين الشيخ رحمه الله مواقف أهل السنة والجماعة من الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في وقت الفتنة والحروب التي حصلت بينهم . وموقفهم مما ينسب إلى الصحابة من مساوئ ومثالب اتخذها أعداء الله سببا للوقيعة فيهم والنيل منهم كما حصل من بعض المتأخرين والكتاب العصريين الذين جعلوا أنفسهم حكما بين أصحاب رسول الله صلى الله عليهم وسلم فصوبوا وخطأوا بلا دليل بل باتباع الهوى وتقليد المغرضين الذين يحاولون الدس على المسلمين بتشكيكهم بتاريخهم المجيد وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون لينفذوا من ذلك إلى الطعن في الإسلام وتفريق كلمة المسلمين – وما أحسن ما ذكره الشيخ هنا من تجلية الحق وإيضاح الحقيقة فقد ذكر أن موقف أهل السنة مما نسب إلى الصحابة وما شجر بينهم – أي تنازعوا فيه – يتخلص في أمرين : الأمر الأول : أنهم ( يمسكون عما شجر بين الصحابة ) أي يكفون عن البحث فيه ولا يخوضون فيه لما في الخوض في ذلك من توليد الإحن والحقد على أصحاب رسول r وذلك من أعظم الذنوب فطريق السلامة هو السكوت عن ذلك وعدم التحدث به.الأمر الثاني : الاعتذار عن الآثار المروية في مساويهم لأن في ذلك دفاعا عنهم ورداً لكيد أعدائهم وقد ذكر أن جملة الاعتذارات تتلخص فيما يلي :
1- ( هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ) قد افتراه أعداؤهم ليشوهوا سمعتهم كما تفعله الرافضة قبحهم الله – والكذب لا يلتفت إليه .
2-    هذه المساوئ المروية ( منها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه الصحيح ) ودخله الكذب فهو محرف لا يعتمد عليه. لأن فضل الصحابة معلوم وعدالتهم متيقنة فلا يترك المعلوم المتيقن لأمر محرف مشكوك فيه .
3-   ( والصحيح منه ) أي هذه الآثار المروية ( هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون ) فهو من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد – لما في الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( أن رسول الله r قال: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران . وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) .
4-   أنهم بشر يجوز على أفرادهم ما يجوز على البشر من الخطأ فأهل السنة : ( لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن الكبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ) لكن ما يقع منهم من ذلك فله مكفرات عديدة منها :
1-   أن ( لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ) فما يقع من أحدهم يغتفر بجانب ماله من الحسنات العظيمة كما في قصة حاطب لما وقع منه ما وقع في غزوة الفتح غفر له بشهوده وقعة بدر ( حتى أنهم يغفر لهم من السيئات مالا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحوا السيئات ما ليس لمن بعدهم ) وقد قال الله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) (164)
2-   أنهم تضاعف لهم الحسنات أكثر من غيرهم ولا يساويهم أحد في الفضل ( وقد ثبت بقول رسول الله r أنهم خير القرون وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ) أخرجه الشيخان وغيرهما أحاديث عن أبي هريرة وابن مسعود وعمران بن حصين : ( أن رسول الله r قال : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ) الحديث والقرون جمع قرن – والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ويطلق القرن على المدة من الزمان .
3-   كثرة مكفرات الذنوب لديهم فأنهم يتوفر من المكفرات ما لم يتوفر لغيرهم ( فإذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتي بحسنات تمحوه أو غفر له فضل سابقته ) أي الأعمال الصالحة التي أسبقها قبله ( أو بشفاعة محمد r الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه ) أي امتحن وأصيب بمصيبة محي عنه ذلك الذنب بسببها – كما في الصحيح أن رسول الله r قال : ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) متفق عليه والصحابة أولى الناس بذلك . قال ( فإذا كان هذا في ذنوب المحققة ) أي الواقعة منهم فعلا وأن لديهم رصيداً من الأعمال الصالحة التي تكفرها ( فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين ) الاجتهاد هو بذل الطاقة في معرفة الحكم الشرعي ( أن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور – كما سبق بيان دليل ذلك قريبا – وإذاً فما يصدر من الصحابي من خطأ على قلته هو بين أمرين – الأول أن يكون صدر عن اجتهاد وهو فيه مأجور وخطؤه مغفور – وإما أن يكون صدر عن غير اجتهاد – عنده من الأعمال والفضائل والسوابق الخيرة ما يكفره ويمحوه .
وقوله ( ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم ) الخ هو كالتلخيص لما سبق وبيان فضائل الصحابة إجمالا وهي :
1- الإيمان بالله ورسوله وهو أفضل الأعمال .
2-   الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وهو ذروة سنام الإسلام .
3-   الهجرة في سبيل الله وهي من أفضل الأعمال .
4-   النصرة لدين الله قال تعالى فيهم ( وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )(165)
5-   العلم النافع والعمل الصالح .
6-   أنهم خير الخلق بعد الأنبياء – فأمه محمد r خير الأمم كما قال تعالى ( كنتم خير أمه أخرجت للناس )(166) وخير هذه الأمة صحابة رسول الله r لقوله عليه الصلاة والسلام خيركم قرني ثم الذين يلونهم ) الحديث .
7-   أنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : ( أن النبي r قال : ( أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه ) ورواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه .
 
 
 
مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء
ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات . والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة – وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة .

 
  
 
الشرح :
قوله : ( ومن أصول أهل السنة ) أي من أصول عقيدتهم ( التصديق بكرامات الأولياء ) الكرامات : جمع كرامة وهي ( ما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات ) فالكرامة أمر خارق للعادة . أي لمألوف الآدميين – والأولياء جمع ولي : وهو المؤمن المتقي كما قال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) ( 167) سمى وليا اشتقاقا من الولاء وهو المحبة والقرب فولي الله من والى الله بموافقته في محبوباته والتقرب إليه بمرضاته . وكرامات الأولياء حق وقد دل عليها الكتاب والسنة والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين والناس في الكرامات الأولياء على ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : من ينفيها من المبتدعة كالمعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة وشبهتهم : أن الخوارق لو جاز ظهورها على أيدي الأولياء لالتبس النبي بغيره إذ الفرق بين النبي وغيره هو المعجزة التي هي خرق العادة .
الصنف الثاني : من يغلو في إثبات الكرامة من أصحاب الطرق الصوفية والقبوريين الذين يدجلون على الناس ويأتون بخوارق شيطانية كدخول النار وضرب أنفسهم بالسلاح وإمساك الثعابين وغير ذلك مما يدعونه لأصحاب القبور من التصرفات التي يسمونها كرامات .
الصنف الثالث : الذين ذكرهم الشيخ هنا وهم أهل السنة والجماعة فيؤمنون بكرامات الأولياء ويثبتونها على مقتضى ما جاء في الكتاب والسنة . ويردون على من نفاها بحجة منع الاشتباه بين النبي وغيره . بأن هناك فوارق عظيمة بين الأنبياء وغيرهم غير خوارق العادات. وأن الولي لا يدعى النبوة ولو ادعاها لخرج عن الولاية وصار مدعيا كذابا لا وليا ومن سنة الله أن يفضح الكاذب كما حصل لمسيلمة الكذاب وغيره . ويردون على من غلا في إثباتها فادعاها للمشعوذين والدجالين – بأن هؤلاء ليسوا أولياء الله – وإنما أولياء للشيطان وما يجري عليهم إما كذب وتدجيل أو فتنة لهم ولغيرهم واستدراج. والله أعلم ولشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع كتاب جليل اسمه : ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) وفي قوله : ( في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات ) إشارة إلى أن الكرامة منها ما يكون من باب العلم والكشف بأن يسمع العبد مالا يسمعه غيره أو يرى ما لا يراه غيره يقظة أو مناما . أو يعلم مالا يعلمه غيره . ومنها ما هو من باب القدرة والتأثير – مثال النوع الأول : قول عمر : يا سارية الجبل وهو بالمدينة وسارية في المشرق . وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلا . وقصة صاحب موسى وعلمه بحال الغلام .
ومثال النوع الثاني : قصة الذي عنده علم من الكتاب وإتيانه بعرش بلقيس إلى سليمان عليه السلام . وقصة أهل الكهف وقصة مريم وقصة خالد بن الوليد لما شرب السم ولم يحصل له منه ضرر . وقوله
( المأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة ) يشير بذلك إلى الكرامات التي وقعت وذكرت في القرآن الكريم وغيره من النقول الصحيحة فما ذكره الله في القرآن عن سالف الأمم ما ذكره الله عن حمل مريم بلا زوج وما ذكر في سورة الكهف من قصة أصحاب الكهف وقصة صاحب موسى وقصة ذي القرنين . وكالمأثور – أي المنقول بالسند الصحيح عن ( صدر هذه الأمة ) أي أولها من الصحابة والتابعين كرؤية عمر لجيش سارية وهو على منبر المدينة وجيش سارية بنهاوند بالمشرق وندائه له : يا سارية الجبل فسمعه سارية وانتفع بهذا التوجيه وسلم من كيد العدو . وقوله ( وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة ) أي لا تزال الكرامات موجودة في هذه الأمة إلى يوم القيامة ما وجدت فيهم الولاية بشروطها والله أعلم .
فصل في: صفات أهل السنة والجماعة ولم سموا بذلك
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة إتباع آثار رسول الله r باطنا وظاهرا وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وإتباع وصية رسول الله r حيث قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة ) ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدى محمد r . ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدي محمد r على هدي كل أحد – ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة . وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين . وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنه أو ظاهرة مما له تعلق بالدين. والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة. 

 
 
الشرح :
لما ذكر الشيخ طريقة أهل السنة في مسائل العقيدة ذكر في هذا الفصل والذي بعده طريقتهم في عموم الدين أصوله وفروعه وأوصافهم التي تميزوا بها عن أهل البدع والمخالفات فمن صفاتهم:
1- ( إتباع آثار النبي r باطنا وظاهرا ) أي سلوك طريقه والسير على منهاجه ( باطنا وظاهرا ) بخلاف المنافقين الذين يتبعونه في الظاهر دون الباطن – وآثار الرسول r سنته وهي ما روى عنه وأثر عنه من قول أو فعل أو تقرير . لا آثاره الحسية كمواضع جلوسه ونومه ونحو ذلك لأن تتبع ذلك سبب للوقوع في الشرك. كما حصل في الأمم السابقة.
2- ومن صفات أهل السنة ( إتباع سبيل الأولين من المهاجرين والأنصار ) لما خصهم الله به من العلم والفقه فقد شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وتلقوا عن الرسول r بدون واسطة فهم أقرب إلى الصواب وأحق بالإتباع بعد الرسول r  فإتباعهم يأتي بالدرجة الثانية بعد إتباع الرسول r فأقوال الصحابة حجة يجب أتباعها إذا لم يوجد نص عن النبي r - لأن طريقهم أسلم وأعلم وأحكم – لا كما يقول بعض المتأخرين – إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم فيتبعون طريقة الخلف ويتركون طريقة السلف .
3- ومن صفات أهل السنة ( إتباع وصية رسول الله r حيث قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور . فإن كل بدعة ضلالة ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه – وقال الترمذي : حسن صحيح وغرض الشيخ أن يبين أن أهل السنة والجماعة يتبعون طريقة الخلفاء الراشدين على الخصوص بعد إتباعهم لطريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على وجه العموم لأن النبي r أوصى بإتباع طريقة الخلفاء الراشدين وصية خاصة في هذا الحديث – ففيه قرن سنة الخلفاء الراشدين بسنته عليه الصلاة السلام فدل على أن ما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم لا يجوز العدول عنه
 ( والخلفاء الراشدون ) هم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ووصفوا بالراشدين لأنهم عرفوا الحق واتبعوه – فالراشد هو من عرف الحق وعمل به وضده الغاوي وهو من عرف الحق ولم يعمل به وقوله ( المهديين ) أي الذين هداهم الله إلى الحق ( تمسكوا بها ) أي إلزموها ( وعضوا عليها بالنواجذ ) كناية عن شدة التمسك بها والنواجذ آخر الأضراس . و( محدثات الأمور ) هي البدع ( فإن كل بدعة ضلالة ) والبدعة لغة : ما ليس له مثال سابق . وشرعا : ما لم يدل عليه دليل شرعي . فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له دليل فهو بدعة وضلالة سواء في العقيدة أو في الأقوال أو الأفعال.
4- ومن صفات أهل السنة أنهم يعظمون كتاب الله وسنة رسوله ويجلونها ويقدمونها في الاستدلال بهما والاقتداء بهما على أقوال الناس وأعمالهم لأنهم : ( يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله ) قال الله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) . (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً) (168) ويعلمون : ( أن خير الهدي هدي محمد ) الهدى بفتح الهاء وسكون الدال: السمت والطريقة والسيرة- وقرئ بضم الهاء وفتح الدال – أي الدلالة والإرشاد . ( ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ) أي يقدمونه ويأخذون به ويتركون ما عارضه من كلام الخلق أيا كانوا رؤساء أو علماء أو عبادا . ( ويقدمون هدى محمد r ) أي سنته وسيرته وتعليمه وإرشاده ( على هدى كل أحد ) من الخلق مهما عظمت مكانته إذا كان هديه يعارض هدي رسول الله r . وذلك عملا بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ)(169) الآية وقوله ( ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة ) أي لأجل تمسكهم بكتاب وإيثارهم لكلامه على كلام كل أحد . وتمسكهم بهدي رسول الله وتقديمه على هدى كل أحد سموا أهل الكتاب والسنة لأجل ذلك لقبوا بهذا اللقب الشريف الذي يفيد اختصاصهم بهما دون غيرهم ممن حاد عن الكتاب والسنة من فوق أهل الضلال كالمعتزلة والخوارج والروافض ومن وافقهم في أقوالهم أو في بعضها وقوله :
( وسموا أهل الجماعة ) أي كما سموا أهل الكتاب والسنة سموا (أهل الجماعة) والجماعة ضد الفرقة لأن التمسك بالكتاب والسنة يفيد الاجتماع والائتلاف قال تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (170) فالجماعة هنا هم المجتمعون على الحق .
5- فمن صفات أهل السنة الاجتماع على الأخذ بالكتاب والسنة والاتفاق على الحق والتعاون على البر والتقوى وقد أثمر هذا وجود الإجماع ( والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين) وقد عرف الأصوليون الإجماع بأنه : اتفاق علماء العصر على أمر ديني – وهو حجة قاطعة يجب العمل به . وقوله ( هو الأصل الثالث ) أي بعد الأصلين الأولين وهما الكتاب والسنة .
6- من صفات أهل السنة أنهم ( يزنون بهذه الأصول الثلاثة ) الكتاب والسنة والإجماع ( جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنه أو ظاهرة مما له تعلق بالدين ) فهم يجعلون هذه الأصول الثلاثة ميزانا لبيان الحق من الباطل والهدى من الضلال فيما يصدر من الناس من تصرفات قوليه أو فعلية اعتقاديه أو علمية ( مما له تعلق بالدين ) من أعمال الناس كالصلاة والصيام والحج والزكاة والمعاملات وغيرها . أما ما ليس له تعلق بالدين من الأمور العادية والأمور الدنيوية فالأصل فيه الإباحة . ثم بين الشيخ رحمه الله حقيقة الإجماع الذي يجعل أصلا في الاستدلال فقال : ( والإجماع الذي ينضبط ) أي يجزم بحصوله ووقوعه : ( هو ما كان عليه السلف الصالح ) لما كانوا قليلين مجتمعين في الحجاز يمكن ضبطهم ومعرفة رأيهم في القضية ( وبعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ) أي بعد السلف الصالح صار الإجماع لا ينضبط لأمرين :
أولا : كثرة الاختلاف بحيث لا يمكن الإحاطة بأقوالهم .
ثانيا : انتشار الأمة في أقطار الأرض بعد الفتوح بحيث لا يمكن عادة بلوغ الحادثة لكل واحد منهم ووقوفه عليها . ثم لا يمكن الجزم بأنهم أطبقوا على قول واحد فيها .
تنبيه: إنما اقتصر الشيخ رحمه الله على ذكر الأصول الثلاثة – ولم يذكر الأصل الرابع وهو القياس – لأن القياس مختلف فيه كما اختلفوا في أصول أخرى مرجعها كتب الأصول .
فصل: في بيان مكملات العقيدة من مكارم الأخلاق ومحاسن
الأعمال التي يتحلى بها أهل السنة
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبرار كانوا أو فجارا . ويحافظون على الجماعات . ويدينون بالنصيحة للأمة . ويعتقدون معنى قوله r ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ) وقوله r ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء .

 
الشرح :
هذا الفصل كالمتمم للفصل الذي قبله فيه بيان لصفات أهل السنة التي هي من مكملات العقيدة فقوله :( ثم هم) أي أهل السنة ( مع هذه الأصول ) أي التي مر ذكرها – أي مع قيامهم بها علما وعملا يتحلون بصفات هي من مكملاتها وثمراتها فهم ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) كما وصفهم الله بذلك في قوله (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (171) والمعروف هو اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح . والمنكر : اسم جامع لكل ما يكرهه الله وينهي عنه ( على ما توجبه الشريعة ) أي باليد ثم باللسان ثم بالقلب تبعا للقدرة والمصلحة – خلافا للمعتزلة الذين يخالفون ما توجبه الشريعة في هذا فيرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخروج على الأئمة قوله ( ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد من الأمراء أبرار كانوا أو فجارا ) أي ويعتقد أهل السنة وجوب إقامة هذه الشعائر مع ولاة أمور المسلمين ( أبرار كانوا أو فجارا) أي سواء كانوا صالحين مستقيمين أو فساقا فسقا لا يخرجهم عن الملة – وذلك لأن غرض المسلمين من ذلك هو جمع الكلمة والابتعاد عن الفرقة والخلاف ولأن الوالي الفاسق لا ينعزل بفسقه ولا يجوز الخروج عليه لما يترتب على ذلك من ضياع الحقوق وإراقة الدماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أكثر من الذي في إزالته – أهـ وأهل السنة يخالفون في ذلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة الذين يرون قتال الولاة والخروج عليهم – إذا فعلوا ما هو ظلم أو ظنوه ظلما ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقوله ( ويحافظون على الجماعات ) أي ومن صفات أهل السنة أنهم يحافظون على حضور صلاة الفريضة مع الجماعة جمعة أو غيرها لأن ذلك من أعظم شعائر الإسلام وطاعة لله ورسوله في ذلك خلاف للشيعة الذين لا يرون الصلاة إلا مع الإمام المعصوم . وخلافا للمنافقين الذين يتخلفون عن الصلاة الجماعة. وقد وردت أحاديث في فضل صلاة الجماعة والأمر بها والنهي عن تركها ليس هذا موضع ذكرها. قوله ( ويدينون بالنصيحة للأمة ) أي يرونها من الدين . وأصل النصح في اللغة : الخلوص وشرعاً : هي إرادة الخير للمنصوح له وإرشاده إلى مصالحه – فأهل السنة يريدون الخير للأمة ويرشدونها إلى ما فيه صلاحها. ومن صفات أهل السنة التعاون على الخير. والتألم لألم المصابين منهم فهم ( يعتقدون معنى قوله r ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه) رواه البخاري ومسلم وقوله r ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر ) رواه البخاري ومسلم وغيرهما فالحديثان يمثلان ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من تعاون وتراحم . وأهل السنة يعملون بمقتضاها وقوله ( المؤمن للمؤمن ) وقوله (مثل المؤمنين ) المراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل ( كالبنيان ) هذا التمثيل يقصد منه التقريب للفهم ( يشد بعضه بعضا ) بيان لوجه الشبه ( وشبك بين أصابعه ) تمثيل آخر يقصد منه التقريب للفهم – وقوله ( كمثل الجسد الواحد ) أي بالنسبة إلى جميع أعضائه من حيث الشعور بالراحة أو التعب ( توادهم ) أي محبة بعضهم لبعض ( تعاطفهم ) أي عطف بعضهم على بعض ( إذا اشتكى ) تألم ( تداعي ) شارك بعضه البعض الآخر في الألم ( سائر الجسد ) باقيه ( بالحمى ) ما ينشأ عن الألم من حرارة الجسم ( السهر ) عدم النوم . وهذا الحديث خبر معناه الأمر – أي كما أنه إذا تألم بعض جسده سرى ذلك الألم إلى جميع جسده فكذا المؤمنون ليكونوا كنفس واحدة إذا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم ويعلمون على إزالتها وفي هذا التشبيه تقريب للفهم وإظهار المعاني في الصور المرئية . ومن صفات أهل السنة ثباتهم في مواقف الامتحان (يأمرون بالصبر عند البلاء ) الصبر لغة : الحبس ومعناه هنا : حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن التشكي والتسخط ، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ( البلاء) الامتحان بالمصائب والشدائد (والشكر عند الرخاء ) الشكر : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما ، وهو صرف العبد ما أنعم الله به عليه في طاعته ( الرخاء ) اتساع النعمة ( والرضا بمر القضاء ) الرضا : ضد السخط والقضاء : لغة : الحكم . وعرفا : إرادة الله المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه . ومر القضاء – ما يجري على العبد مما يكرهه كالمرض والفقر وأذى الخلق والحر والبرد والآلام.
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال: ويعتقدون معنى قوله r : ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك . ويأمرون ببر الوالدين . وصلة الأرحام . وحسن الجوار . والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك . وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق. ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها . وكل ما يقولونه يفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة 

 
  
 
الشرح :
يهتم أهل السنة بالأخلاق فيتحلون بالأخلاق الفاضلة ويرغبون فيها غيرهم فهم ( يدعون إلى مكارم الأخلاق ) أي أحسنها – والأخلاق – جمع خلق بضم الخاء واللام وهو الصورة الباطنة والخلق بفتح الخاء وسكون اللام هو الصورة الظاهرة وهو الدين والسجية والطبع ويدعون إلى ( محاسن الأعمال ) كالكرم والشجاعة والصدق والأمانة ( ويعتقدون معنى قوله r) أي يؤمنون به ويعملون بمقتضاه ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) رواه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح . وقوله ( أحسنهم خلقا ) أي ألينهم وألطفهم وأجملهم – ففي الحديث الحث على التخلق بأحسن الأخلاق . وفيه أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان . وأن الإيمان يتفاضل . وأهل السنة يدعون إلى التعامل مع الناس بالتي هي أحسن وإلى إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم ويحذرون من أضداد تلك الأخلاق من الكبر والتعدي على الناس فهم ( يندبون ) أي يدعون ( إلى أن تصل من قطعك ) أي تحسن إلى من أساء إليك ( وتعطي من حرمك ) أي تبذل العطاء هو التبرع والهدية ونحوها لمن منع ذلك عنك لأن ذلك من الإحسان ( وتعفو عمن ظلمك ) أي تسامح من تعدي عليك في مال أو دم أو عرض لأن ذلك مما يجلب المودة ويكسب الأجر والثواب ( ويأمرون ) أي أهل السنة بما أمر الله به من إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم ( ببر الوالدين ) أي طاعتهما في غير معصية والإحسان إليهما بالقول والفعل . ( وصلة الأرحام ) أي الإحسان إلى الأقربين – والأرحام جمع رحم هو من تجمعك به قرابة ( وحسن الجوار) أي الإحسان إلى من يسكن بجوارك ببذل المعروف وكف الأذى ( والإحسان إلى اليتامى ) جمع يتيم – وهو لغة – المنفرد وشرعا : من مات أبوه قبل بلوغه – والإحسان إليهم هو برعاية أحوالهم وأموالهم والشفقة عليهم ( والمساكين ) أي الإحسان إلى المساكين – جمع مسكين وهو المحتاج الذي أسكنته الحاجة والفقر – والإحسان إليهم يكون بالتصدق عليهم والرفق بهم ( وابن السبيل ) أي والإحسان إلى أبن السبيل وهو المسافر المنقطع به الذي نفدت نفقته أو ضاعت أو سرقت – وقيل هو الضيف . ( والرفق بالمملوك ) أي ويأمرون بالرفق بالمملوك – وهو الرقيق ويدخل فيه المملوك من البهائم – والرفق ضد العنف وهو لين الجانب ( وينهون عن الفخر ) وهو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب ( والخيلاء ) بضم الخاء . الكبر والعجب ( والبغي ) وهو العدوان على الناس ( والاستطالة على الخلق ) أي الترفع عليهم واحتقارهم والوقيعة فيهم ( بحق وبغير حق ) لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر وإن استطال بغير حق فقد بغى ولا يحل لا هذا ولا هذا. ( ويأمرون بمعالي الأخلاق ) أي يأمر أهل السنة بالأخلاق العالية – وهي الأخلاق الحسنة ( وينهون عن سفسافها ) أي رديئها وحقيرها – والسفساف الأمر الحقير والردئ من كل شئ وهو ضد المعالي والمكارم . وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل والتراب إذا أثير . ( وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة ) أي ما يقوله ويفعله أهل السنة ويأمرون به وينهون عنه مما تقدم ذكره في الرسالة وما لم يذكر . فقد استفادوه من كتاب ربهم وسنة نبيهم لم يبتدعوه من عند أنفسهم ولم يقلدوا فيه غيرهم – فقد قال تعالى : (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ) (173)
والأحاديث في هذا كثيرة منها ما ذكره الشيخ :
وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً r . لكن لما أخبر النبي r أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة . وفي حديث عنه أنه قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة وفيهم الصديقون والشهداء والصالحين ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولوا المناقب المأثورة والفضائل المذكورة .

وفيهم الأبدال . وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم. وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي r ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة . فنسأل الله أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ أهدانا. وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
 
 
 
 
 
الشرح :
يواصل الشيخ رحمه الله بيان مزايا أهل السنة والجماعة فبين مزيتهم العظمى وهي :
أن ( طريقتهم دين الإسلام ) أي هو مذهبهم وطريقهم إلى الله وأنهم عند الافتراق الذي أخبر النبي r عن حدوثه في هذه الأمة ثبتوا على الإسلام وصاروا هم الفرقة الناجية من بين تلك الفرق وهم الجماعة الثابتة على ما كان النبي r وأصحابه وهو الإسلام المحض الخالص من الشوائب ولذلك فازوا بقلب أهل السنة والجماعة . وصار فيهم ( الصديقون ) المبالغون في الصدق والتصديق ( والشهداء ) القتلى في سبيل الله (والصالحون ) أهل الأعمال الصالحة ( وفيهم أعلام الهدى ..... الخ أي وفي أهل السنة العلماء الأعلام المتصفون بكل وصف حميد علما وعملا ( وفيهم الأبدال ) وهم الأولياء والعباد سموا بذلك قيل لأنهم كلما مات منهم أحد أبدل بآخر – وفي رواية عن أحمد أنهم أصحاب الحديث ( وفيهم أئمة الدين ) أي في أهل السنة والعلماء المقتدى بهم كالأئمة الأربعة وغيرهم ( وهم طائفة المنصورة) أي وأهل السنة هم الطائفة المذكورة في الحديث ( لا تزال طائفة من أمتي ) الحديث رواه البخاري ومسلم . ثم ختم الشيخ رسالته المباركة بالدعاء والصلاة والسلام على النبي r وهو خير ختام – والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

الفهـــــــرس
-   المقدمة 2
-   شرح البسملة وخطبة الافتتاح   3
-   أهل السنة والجماعة    6
-   أركان الإيمان   6
-   الإيمان بصفات الله 8
-   موقف أهل السنة والجماعة من الإيمان بصفات الله 9
-   الاستدلال على إثبات أسماء وصفاته من القرآن الكريم  
-   الجمع بين النفي والإثبات في صفه تعالى   15
-   الجمع بين علو وقربه وأزليته وأبديته   18
-   إحاطة عمله بجميع مخلوقاته    19
-   إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى 21
-   إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه   22
-   إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله 24
-   إثبات اتصافه بالرحمة والمغفرة سبحانه وتعالى 26
-   ذكر رضي الله وغضبه وسخطه وكراهيته في القرآن الكريم وإنه متصف بذلك  27
-   ذكر مجئ الله سبحانه لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلالة 29
-   إثبات الوجه لله سبحانه 30
-   إثبات اليدين لله تعالى في القرآن الكريم 31
-   إثبات العينين لله تعالى 32
-   إثبات السمع والبصر لله تعالى 33
-   إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به 34
-   وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة 35
-   إثبات الاسم لله ونفى المثل عنه 36
-   نفي الشريك عن الله تعالى 37
-   إثبات استواء الله على عرشه   40
-   إثبات علو الله على مخلوقاته    41
-   إثبات معية الله لخلقه 43
-   إثبات الكلام لله تعالى   44
-   إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى   47
-   إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة 48
-   الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من السنة
-   مكانة السنة 50
-   ثبوت النزول الإلهي إلى سماء الدنيا على ما يليق بجلال الله 50
-   إثبات أن الله يفرح ويضحك    51
-   إثبات إن الله يعجب ويضحك   52
-   إثبات الرجل والقدم لله سبحانه 52
-   إثبات النداء والصوت والكلام لله تعالى 53
-   إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه 53
-   إثبات معية الله تعالى لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه 55
-   إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة 57
-   موقف أهل السنة من هذه الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية 58
-   مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة   59
-   وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه   
ومعيته لخلقه وأنه لا تنافي بينهما   62
-   ما يجب اعتقاده في علوه ومعيته سبحانه
ومعنى كونه سبحانه " في السماء " وأدلة ذلك 63
-   وجوب الإيمان بقربه من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته   64
-   وجوب الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة وذكر مقالة بعض الطوائف المخالفة  65
-   وجوب الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية    67
-   " ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر
-   ما يكون في القبر   67
-   القيامة الكبرى وما يجري فيها   69
-   حوض النبي r ومكانه وصفاته 73
-   الصراط ومعناه ومكانه وصفة مرور الناس عليه    74
-   القنطرة بين الجنة والنار    75
-   أول من يستفتح باب الجنة وأول من يدخلها وشفاعات النبي r 75
-   إخراج بعض العصاة من النار برحمة الله بغير شفاعة واتساع الجنة عن أهلها  78
-   الإيمان بالقدر وما يتضمنه 
-   تفصيل مراتب القدر
أ‌- الدرجة الأولى وما تتضمنه 79
ب‌-الدرجة الثانية وما تتضمنه 81
-   أنه لا تعارض بين القدر والشرع ولا بين تقديره للمعاصي وبغضه لها   82
-   أنه لا تنافي بين إثبات القدر وإسناد أفعال العباد إليهم حقيقة
وأنهم يفعلونها باختيارهم    83
-   حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة 85
-   الواجب نحو أصحاب رسول الله r وذكر فضائلهم 89
-   فضل الصحابة وموقف أهل السنة والجماعة منه وبيان تفاضلهم 90
-   حكم تقديم علي t على غيره من الخلفاء الأربعة   93
-   مكانة أهل بيت النبي r عند أهل السنة والجماعة   93
-   مكانة أزواج النبي r عند أهل السنة والجماعة 95
-   تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله المبتدعة في حق الصحابة وأهل البيت 96
-   مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء 99
-   صفات أهل السنة والجماعة ولم سموا بذلك 100
-   بيان مكملات العقيدة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال
التي يتحلى بها أهل السنة   102

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - إدارة الدراسات الإسلامية